المسلك الثاني: أن الفرق بين الصفات هو اختلافها في التأثيرات، وليس في التعلقات، أما الكلام فالاختلاف بين أنواعه في التعلقات لا في التأثيرات، قالوا: " يمتنع أن يكون الاختلاف بين القدرة والارادة بسبب التعليقات والمتعلقات، إذ القدرة معنى من شأنه تأتي الإيجاد به، والإرادة معنى من شأنه تأتي التخصيص الحادث بحال دون حال، وعند اختلاف التأثيرات لابد من الاختلاف في نفس المؤثر، وهذا بخلاف الكلام فان تعلُّقاته بمتعلقاته لا يوجب أثراً فضلاً عن كونه مختلفاً ".
قال أبو الحسن الآمدي في أبكار الأفكار بعد أن عزا هذا الجواب للأصحاب: " وفيه نظر، وذلك أنه وإن سُلِّمَ إقناعُ صدور الآثار المختلفة عن المؤثر الواحد، مع إمكان النِّزاع فيه، فهو موجب للاختلاف في نفس القدرة وذلك، لأن القدرة مؤثرة في الوجود والوجود عند أصحابنا نفس الذات، لا أنه زائد عليها، وإلا كانت الذوات ثابتة في العدم وذلك مما لا نقول به.
وإذا كان الوجود هو نفس الذات فالذوات مختلفة، فتأثير القدرة في آثار مختلفة فيلزم أن تكون مختلفة كما قرروه، وليس كذلك.
وأيضاً: فان ما ذكروه من الفرق وإن استمر في القدرة والإرادة، فغير مُستمِّرٍ في باقي الصفات، كالعلم والحياة والسمع والبصر، لعدم كونها مؤثرة في أثر ما ".
المسلك الثالث: ما سلكه الغزالي بعد أن قرر المسلك الثاني، واعترض عليه باعتراض فقال: " فإن قيل: ليس في هذا – أي المسلك الثاني - قطع دابر الإشكال، لأنك إذ اعترفت باختلافٍ ما بسببِ اختلاف المتعلق، فالإشكال قائم، فما لك وللنظر في سبب الاختلاف بعد وجود الاختلاف؟! ".
ثم قال: غاية الناصر لمذهب معين أن يظهر على القطع ترجيح اعتقاده على اعتقاد غيره، وقد حصل هذا على القطع، إذ لا طريق إلا واحد من هذه الثلاث: طرفان وواسطة، والاقتصاد أقرب إلى السداد، أما الطرفان فأحدهما في التفريط وهو الاقتصار على ذات واحدة تؤدي جميع هذه المعاني وتنوب عنها كما قالت الفلاسفة.
والثاني: طرف الإفراط وهو إثبات صفة لا نهاية لآحادها من العلوم والكلام والقدرة، وذلك بحسب عدد متعلقات هذه الصفات، وهذا إسراف لا صائر إليه إلا بعض المعتزلة وبعض الكرامية.
والرأي الثالث هو القصد والوسط، أو اختراع رابع لا يعقل.
وهذا الواحد إذا قوبل بطرفيه المتقابلين له علم على القطع رجحانه، وإذ لم يكن بد من اعتقاد ولا معتقد إلا هذه الثلاث، وهذا أقرب الثلاث، فيجب اعتقاده وإن بقي ما يحيك في الصدر من إشكال يلزم على هذا، واللازم على غيره أعظم منه ".
قال مقيده عفا الله عنه: هذا ليس جواباً للإشكال، لأنه لم يذكر وجه كون مذهب الأشعرية وسطاً.
ثم هو لم يذكر مذهب أهل الحديث، لقلة خبرته بالحديث وبأقوال أهله، قال شيخ الإسلام في النبوات ص632: " والغزالي حصر أهل العلم الآلهي في أربعة أصناف: في الفلاسفة والباطنية والمتكلمين والصوفية، فلم يعرف مقالات أهل الحديث والسنة، ولا مقالات الفقهاء، ولا مقالات أئمة الصوفية، ولكن ذكر عنهم - أي: الصوفية - العمل وذكر عن بعضهم اعتقاداً يخالفهم فيه أئمتهم ".
ثم إن لوازم مذهبهم الذي يدعي أنه الوسط في غاية الشناعة، بل مذهبهم نص أهل العلم على أنه قريب من السفسطة، فأي وسطية هذه؟، قال ابن قدامة في المناظرة ص38 - 39: " إن قالوا إن القرآن والإنجيل والتوراة والزبور شيء واحد غير متعددة، فقد كابروا ويجب على هذا:
1 - أن تكون التوراة هي القرآن والإنجيل والزبور، وأن موسى لما أنزلت عليه التوراة فقد أُنزِلَ عليه كل كتاب لله تعالى، وأن نبينا عليه السلام لما أنزل عليه القرآن فقد أنزلت عليه التوراة والإنجيل والزبور.
2 - وأنَّ من قرأ آية من القرآن فقد قرأ كُلَّ كتاب الله تعالى، ومن حفظ شيئاً منه فقد حفظه كله، ويجب على هذا أن لا يتعب احد في حفظ القرآن، لأنه يحصل له حفظ كل كتاب لله تعالى بحفظ آية منه.
3 - ويجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه آية من القرآن أنزل عليه جميعه، وجميع التوراة والإنجيل والزبور.
وهذا خزي على قائله ومكابرة لنفسه.
¥