فقلتُ: ما قال عارف قطُّ: يا ربَّاه! إلا - قبل أن يتحرك لسانه - قام من باطنه قصدٌ لا يلتفتُ يمنة ولا يسرة، يقصدُ الفوقَ، فهل لهذا القصد الضَّرُوريِّ عندك من حيلة؟ فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت!.
وبكيتُ، وبكى الخلق.
فضربَ الأستاذُ بكُمِّهِ على السرير، وصاح: ياللحيرة!، وخرق ما كان عليه وانخلع وصارت قيامة في المسجد، ونزل ولم يجبني، إلا: يا حبيبي الحيرة الحيرة!، والدهشة الدهشة!.
فسمعتُ بعد ذلك أصحابه يقُولُون: سمعناه يقولُ: حَيَّرنِي الهمداني!.
قال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في مختصر العلو: " هذه قصة مُسلسلةٌ بالحُفَّاظ ".
قال مقيده عفا الله عنه: تأمل حال هذا الإمام المقدم عند سائر الأشعرية، كيف تحير واضطرب عندما تناقضت لديه قضيَّةٌ فطرية ضرورية، مع قضيِّةٍ يزعمون أنها عقلية نظرية والأَولَى أن تُسمَّى جهلية.
وقد حاول الإمام الأصولي تاج الدين السبكي عفا الله عنه الطعن في صحة هذه القصة، فأتى بكلام خطابي لا وزن له عند أهل التحقيق، فكان كمن يضرب في حديد بارد، قال في طبقات الشافعية الكبرى في ترجمة الجويني: " ذكر ما وقع من التخبيط في كلام شيخنا الذهبي والتحامل على هذا الإمام العظيم " ثم قال بعد أن ذكر هذه القصة: " قد تكلف لهذه الحكاية وأسندها بإجازة على إجازة مع ما في إسنادها ممن لا يخفى محاطة على الأشعري وعدم معرفته بعلم الكلام.
ثم أقول: يا لله ويا للمسلمين! أيقال عن الإمام إنه يتخبط عند سؤال سأله إياه هذا المُحدِّث، وهو أستاذُ المُناظرين وعَلَمُ المتكلِّمين؟!
أو كان الإمامُ عاجزاً عن أن يقول له: كذبتَ يا ملعُون! فإن العارف لا يُحدِّثُ نفسه بفوقيَّة الجسميَّةِ، ولا يُحدِّدُ ذلك إلا جاهل يعتقد الجهة!.
بل نقول: لا يقول عارف يا رباه! إلا وقد غابت عنه الجهات، ولو كانت جهة فوق مطلوبة، لما مُنِع المصلي من النظر إليها، وشدد عليه في الوعيد عليها.
وأما قوله: " صاح بالحيرة "، وكان يقول: " حيرني الهمذاني " فكذبٌ ممن لا يستحيي!.
وليت شعري!، أيُّ شبهة أوردها؟ وأي دليلٍ اعترضه حتى يقول: حيرني الهمذاني!.
ثم أقول: إن كان الإمام مُتحيِّرَاً لا يدري ما يعتقد فواهاً على أئمة المُسلمِين، من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة إلى اليوم، فإن الأرض لم تُخرج من لَّدن عهده أعرف منه بالله! ولا أعرف منه!.
فيالله! ماذا يكون حالُ الذهبي وأمثاله إذا كان مثل الإمام متحيراً؟ إن هذا لخزيٌ عظيم.
ثم ليتَ شعري! من أبو جعفر الهمذاني في أئمة النظر والكلام؟ ومن هو من ذوي التحقيق من علماء المسلمين؟ " اهـ كلامه.
وفي ما قاله وقفات:
الوقفة الأولى: الحجة التي يدور عليها كلامه هي استبعاد نكول الجويني عن الجواب وهو أستاذُ المُناظرين وعَلَمُ المتكلِّمين، والسائل محدِّثٌ ليس من أئمة النظر والكلام.
وهذا مُسلَّم، فالجويني منزلته في المناظرة والكلام غير خافية، لكن ما المانع أن يظهر الحق على لسان من هو أقل منه في النظر والكلام؟، فهذا غير ممتنع لا عقلاً ولا عادة، بل هو واقع ومشاهد.
ثم إن قبول الحق ممن هو أقل منك فضيلة وخلق كريم، فلم يريد السبكي تجريد الجويني منه؟.
الوقفة الثانية: قوله: " لا يقول عارف يا رباه! إلا وقد غابت عنه الجهات، ولو كانت جهة فوق مطلوبة، لما مُنِع المصلي من النظر إليها، وشدد عليه في الوعيد عليها ".
أقول: هذه من شبهات الجهمية الواهية التي رد عليها علماء السنة، قال شيخ الإسلام في العرشية: " وَلَيْسَ نَهْيُ الْمُصَلِّي عَنْ رَفْعِ بَصَرِهِ فِي الصَّلَاةِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ، كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ جُهَّالِ الْجَهْمِيَّة، فلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ النَّهْيُ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ شَامِلًا لِجَمِيعِ أَحْوَالِ الْعَبْدِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: " قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ "، فَلَيْسَ الْعَبْدُ يُنْهَى عَنْ رَفْعِ بَصَرِهِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا نُهِيَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْخُشُوعِ؛ لِأَنَّ خَفْضَ الْبَصَرِ مِنْ تَمَامِ الْخُشُوعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " خُشَّعًا
¥