ومما يدلُّ على ذلك أيضاً ما نقله الذهبي في السير (18/ 471) عن السمعاني قال: وقرأت بخط أبي جعفر أيضا: سمعتُ أبا المعالي يقول: " قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الاسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الاسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الاخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني ".
وهذه القصة نقلها السبكي ولم يستطع ردها، وإنما فسر كلامه بما لا يدل عليه فقال: " مراده أنه أنزل المذاهب كلها في منزلة النظر والاعتبار، غير متعصب لواحد منها بحيث لا يكون عنده ميل يقوده إلى مذهب معين من غير برهان، ثم توضح له الحق؛ وأنه الإسلام، فكان على هذه الملة عن اجتهاد وبصيرة، لا عن تقليد.
ولا يخفى أن هذا مقام عظيم لا يتهيأ إلا لمثل هذا الإمام وليس يسمح به لكل أحد فإن غائلته تخشى إلا على من برز في العلوم، وبلغ في صحة الذهن مبلغ هذا الرجل العظيم، فأرشد إلى أن الذي ينبغي عدم الخوض في هذا واستعمال دين العجائز.
ثم أشار إلى أنه مع بلوغه هذا المبلغ وأخذه الحق عن الاجتهاد والبصيرة لا يأمن مكر الله، بل يعتقد أن الحق إن لم يدركه بلطفه ويختم له بكلمة الإخلاص فالويل له ولا ينفعه إذ ذاك علومه وإن كانت مثل مدد البحر.
فانظر هذه الحكاية ما أحسنها وأدلها على عظمة هذا الإمام وتسليمه لربه تعالى وتفويضه الأمر إليه، وعدم اتكاله على علومه، ثم تعجب بعدها من جاهل يفهم منها غير المراد ثم يخبط خبط عشواء ".
أقول: لينظر المنصف نظرة متفهم لكلام الجويني ثم لينظر في هذه الكلمات، فيرى أن الجويني يتكلم عن تجربة مريرة خاضها ينصح الناس أن لا يخوضوها، وهذه التجربة هي تجربة الشكِّ، كما هو ظاهر من كلامه، وكما صرح به أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى ونقله الحافظ في الفتح (13/ 305)، فانظر كيف تُقلَبُ الحقائق وتصير التجربة المريرة التي ندم صاحبها على الخوض فيها " مقاماً عظيماً لا يتهيأ إلا لمثل هذا الإمام "!.
ثم إن الجوينى لو كان يقصد أن هذه التجربة لا يخوضها إلا من " برز في العلوم، وبلغ في صحة الذهن مبلغه "، لفصَّل وميَّز، ولما صرح بأنه لم يستفد من تجربته شيئاً: " فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز "، ولو كانت هذه التجربة مقاماً عظيماً لا يتهيأ إلا لمثل هذا الإمام لتمنى أن يموت على ما حصله منها لا على دين العجائز!.
ثم إن الرجوع إلى الحق ليس عيباً، بل هو فضيلة لصاحبه، فعلام يحاول السبكي تجريد الجويني من هذه الفضيلة؟.
الوقفة الرابعة: قوله: " إن الأرض لم تُخرج من لَّدن عهده أعرف منه بالله! ولا أعرف منه! ".
أقول: هذا من الغلو المذموم، والتقول الذي لا يمكن لأحد من الخلق ادعاءه، فهل شق السبكي عن قلوب الناس أجمعين خلال هذه القرون المتطاولة، فعرف أن الجويني أعرفهم بالله؟! فأنى له ادِّعاءُ ذلك؟.
ثم إن الجويني - كما مضى - تمنى أن يموت على دين العجائز، وهذا يدل على أن العجائز عنده أعرف منه بالله، وهذا ينقض زعم السبكي رأساً.
الوقفة الخامسة: قوله: " ماذا يكون حالُ الذهبي وأمثاله إذا كان مثل الإمام متحيراً؟ إن هذا لخزيٌ عظيم ".
أقول: هذا الكلام فيه تنقص للحافظ الذهبي وهو شيخ السبكي، وله أشد منه وأفحش في موضع من ترجمة أحمد بن صالح المصري.
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله في تعليقه على الرفع والتكميل ص319: " وكأن السبكي في أكثر من موضع من كتابه نسي أن الذهبي رحمه الله تعالى شيخه ومعلمه ومطوق عنقه بالفضل؟! فخرج من حد الاعتدال!! والاعتدال حلية الرجال ".
ـ[أبو إبراهيم الحائلي]ــــــــ[05 - 07 - 09, 12:06 ص]ـ
بارك الله فيكم يا أبا الحسنات، ونفع بكم.
وهكذا تعودنا منكم حسن التحرير والاستشهاد والنقولات والتعليق منكم بما يفيد.
زادكم الله من فضله.
[تناقضات الأشعرية (7): ادعائهم نفي علو الله تعالى بألسنتهم، وإقرارهم بذلك عند الرجوع إلى فطرهم]
لعل تركهم التأويل، وانتقالهم منها إلى مرحلة الحيرة، تكفينا في نقض مذهبهم في التأويل وطرحه وعدم قبوله، وبيان بطلانه.
أما تصريحهم بالرجوع فأظن أنَّ ذلك يحتاج إلى عبارات صريحة منهم لإثبات العلو، أما الحيرة والتردد والشك فهذا ليس إقرارًا بالعلو والفوقية لله تعالى، حسب ما أفهمه.
وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا في الحموية:
(كيف يكون هؤلاء المتأخرون - لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه أمرهم حيث يقول:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ** على ذقن أو قارعا سن نادم)
نفع الله بكم
¥