بقي اتهام شريك بالتدليس من قبل عبد الحق الإشبيلي و الدار قطني وغيرهم، فأقول: الجرح بالتهمة بالتدليس غير الجرح بالتدليس، ففرق بين من ثبت عليه التدليس ومن اتهم به فقط،وقيل:" إنه كان يتبرأ منه" {طبقات المدلسين للحافظ} {23}.
ونحن من خلال هذه الترجمة لشريك لم نرد أن نجعله من الضباط المتقنين للرواية، و إنما غرضنا تبيان أن هذا الصنف من الرواة الصادقين يجب سبر أحاديثهم على انفراد، وعدم الحكم عليهم بأحكام عامة، كلما وجدناه في سند ضعفناه، فإن هذا الصنيع غير معروف عند الأوائل، ولا يصح إلا على نوع معين من الرواة، فقد روى مسلم لشريك مقرونا بغيره، وبعضهم يقول: إن ذلك متابعة، قال المزي {تهذيب الكمال} {475/ 12}:" استشهد به البخاري في الجامع وروى له مسلم متابعة و احتج به الباقون"
فكان إذن الأليق بصاحب الرسالة الاكتفاء بمثل قول ابن حجر في" التقريب" فإنه جامع، فإن مجموع قول صاحب الرسالة يوهم أن الرجل ساقط.
فائدة جليلة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " المسودة" {ص:271}:"و ابن القيم في " بدائع الفوائد" {5/ 1}، ولفظ شيخ الإسلام:" و يفرق فيه {الجرح والتعديل} بين الأئمة الذين هم في الحديث بمنزلة القضاة في الشهود، وبين من هو شاهد محض"
ذلك أن الجرح إما يكون بالاجتهاد و إما يكون بالرواية، والجرح بالاجتهاد يشترط فيه ما يشترط في الاجتهاد من السبر و التحقيق و التحليل و التقسيم و الاستقراء و القياس.
أما الجرح بالرواية فيشترط فيه ما يشترط في الرواية من صحة السند، و نقل الجرح والتعديل معا.
أما نقل الجرح دون التعديل، والتعديل أضعافه و أقوى منه، فهذا مخالف لما عليه أهل الحديث قاطبة، فإن الذين عدلوا شريكا أكثر من الذين جرحوه وهم: يحي بن معين،عبد الله بن المبارك، عبد الرحمان بن مهدي، أحمد بن حنبل، أبو حاتم،أبو زرعة، العجلي، ابن شاهين، ابن خزيمة، الترمذي، ابن حبان، أبو داود، إبراهيم الحربي، ابن سعد، يعقوب بن شيبة، ابن عدي المزي، النسائي، الدار قطني، البيهقي، وكيع بن الجراح، وابن حجر،وغيرهم.
وهؤلاء أكثر من يحي بن معين في رواية أخرى، والجوزجاني، و النسائي في الرواية الثانية، و ابن أبي داود، وعبد الحق الإشبيلي، وسعيد الجوهري، وهؤلاء غالبيتهم له رواية أخرى توثقه.
ـ وحديث شريك القاضي جاء من طريق أخرى، ففي "موارد الضمآن" {487}:" من طريق إسرائيل بن يونس، قال على القاري في " شرح المشكاة" {552/ 1} نقلا عن الهيثمي:" إن للحديث طريقين أخريين".
قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ:" إنه خطأ من النساخ فإنه عند رجوعه إلى المخطوطة المحفوظة بالمكتبة المحمودية بالمدينة المنورة وجد إسرائيل كما في المطبوعة، فجزم بأنه خطأ من النساخ بحجة أن الدار قطني لم يذكر هذه الطريق " {الضعيفة} {329/ 2}.
قلت: أولا من المفروض إذا احتج المحتج بمثل هذه الطريقة التوثيقية، وهي الرجوع إلى المخطوطات، أنه إذا وجد المخطوط يتطابق و المطبوع يقبل الرواية،و إن وجده غير ذلك رد الرواية وجزم بخطأ المحقق، أو قد يرجع إلى مخطوطات عديدة ويقابل بينها و يرجح أصحها، وهي ما كانت بخط المؤلف أو قريبة العهد به، أو بخط تلامذته،أو بخط أحد المحدثين الموثوقين.
أما ما استنتجه الشيخ ـ رحمه الله ـ فلا يرتكز على أي منطق، فما فائدة عودته إلى المخطوط إذا كان سينتهي إلا أنه خطأ من النساخ، وقد وجد المخطوط يطابق المطبوع، كنا ننتظر أن يقول: ليس هذا الاسم في المخطوط فهو خطأ من المحقق.
ثانيا: ما وجه هذا الجزم؟ وكيف يكون خطأ من النساخ و الاسمان متغايران رسما ومعنى؟
ولا يمكن أن يكون ذلك خطأ من النساخ، إلا أن يكون الناسخ من حفاظ الحديث القدماء، وهم فجعل إسرائيل بدلا من شريك، وهذا مستبعد جدا لم يقع من قبل، نعم يمكن أن يقع تصحيف في الاسم،أما أن يغير الاسم و اللقب فهذا لم يقع في مثل هذا الأصل.
و الشيخ لم يذكر تاريخ النسخة، في أي عهد كتبت؟ ومن الكاتب؟ ونوع الخط؟ وغير ذلك مما يتعلق بفن توثيق النسخ.
و إذا عرفنا أن إسرائيل بن يونس شارك شريكا في شيوخه، وهو كوفي مثله، ومن طبقته، عرفنا استقامة هذه الطريق وقوة احتمال ورودها.
¥