أما ما فات الدار قطني و غيره فلا يحصيه إلا الله سبحانه و تعالى، وقد نفى أئمة أحاديث عن كتب وهي فيها، وفعلوا العكس، وذلك راجع لاختلاف النسخ التي بين أيدي الناس.
وماذا نقول عن نسخ " صفة صلاة النبي" بعد قرون، هل ستحفظ كل الطبعات؟،أو بعضها يبقى و بعضها يختفي، وكيف سيكون الحال مع العلم أن الكتب المعاصرة مضبوطة بتاريخ الطبعة، ومقدمة المؤلف للطبعة الثانية، وتاريخ الإيداع وغير ذلك مما لم يكن معمولا به في القدم؟
الطريق الثالث لحديث شريك:
وقد روى الحديث عن عاصم غير شريك شقيق أبو الليث مرسلا، لم يذكر وائلا [خلافا لقول الدار قطني من أنه لم يروه عن عاصم غير شريك].
أخرجه أبو داود في" السنن" {524/ 1}، والبيهقي في" السنن" {99/ 2}، و الطحاوي في"شرح المعاني" {255/ 1}.
قال الشيخ الألباني في " الإرواء" {76/ 2}:"لكن شقيقا هذا مجهول لا يعرف كما قال الذهبي وغيره"، وقال في " الضعيفة" {330/ 2}:" قد خالف شريكا شقيق فأرسله".
قلت: الإرسال لا يضر إذا كان متابعة، ولا يعد مخالفة إذا صح المتن، لأنه في مثل هذه الحالة يحمل المنقطع على المتصل، والغالب على أهل الحديث تحسين أحاديث بأخرى مرسلة
و أما جرحه شقيقا بالجهالة فلنا عليه مؤاخذات، لا بأس بالتوسع في هذا الموضوع،لأنه كذلك يتناول رواية العلاء بن إسماعيل العطار الآتية فيما بعد.
فنقول: ذكر البيهقي الإرسال وكلام المتقدمين وعلى رأسهم البخاري، ولم يعلوا الحديث بجهالة شقيق، و إنما بالإرسال.
كما ذكره الحازمي، والترمذي وغيرهم ولم يعلوه بشقيق و أنه لا يعرف.
فهذا تعديل منهم بالتضمن، ولا يمكن أن يقال ما قاله الشيخ الألباني في تعليقه على كتاب المعلمي" التنكيل" {436/ 1}:" من قول ابن أبي حاتم: إنه يوجد في كتبهم من لم يذكروه بجرح ولا تعديل لأنهم لم تستبن لهم حالته"
ذلك أن في مثل حالة شقيق هذا يكفي لجرحه الإشارة إلى انه مجهول، فإن العدول عنها لا يكون إلا لسبب؟
و إذا عرفت أن الأوائل من الحفاظ كانوا أحرص الناس على الدقة و التثبت، علمت أن ما ذكره المتأخرون من جهالة شقيق مبهم، والأفضل البحث عن أحوال هذه الجهالة بمزيد من التفصيل.
فنقول: قال ابن حجر في " التقريب" عن شقيق بعد أن ذكر سند الحديث:" مجهول من السادسة"،أي من الطبقة السادسة من الرواة والتي قال عنها أنه جعل فيها:" من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، و إليه الإشارة بلفظ مقبول حيث يتابع، و إلا فلين الحديث"
فبحسب هذا التقسيم،فإن شقيقا هذا يصلح القول عنه " مقبول"، والذي يظهر من أن سبب تصنيف الحافظ لشقيق في هذه الطبقة كونه من القدماء، وكثير منهم غير معروف، فإن علم التراجم ثم ضبطه بصورة نهائية في ما بعد عصر أتباع تابع التابعين كما ذكره ابن حبان في مقدمة صحيحه، وطريقة كثير من الحفاظ في مثل هؤلاء أنهم إذا وجدوا أحاديثه مستقيمة جعلوه مقبولا، وإن لم يعرفوا عنه إلا حديثا واحدا.
ومن تأمل كلام الحافظ في " الفتح" في مسألة الإهواء إلى السجود علم أنه كان يرى استقامة حديث شريك، ولكنه يرجح عليه غيره، وعليه يفهم إدراجه شقيقا في الطبقة السادسة من الرواة.
و إن هذا مما يدفعنا إلى المزيد من التفصيل في رواية المجهول، فنقول:
إن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له، وتمكنت معرفتهم به، بل يتكلمون فيمن لم يروه ولم يسمعوا منه، وربما كان بينهم و بينه مئات السنين، فإذا رأوا من تقدمهم لم يتعرض له بجرح، ولم يروا في حديثه ما يوجب التنكير وثقوه.
ومن هؤلاء ابن حجر، و احمد، و علي بن المديني، والبخاري، ومسلم، و الترمذي، والنسائي، و آخرون، يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروى متابع أو شاهد، وإن لم يرو عنه إلا واحد، ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد."التنكيل".
قال المعلمي في " التنكيل" {67/ 1}:" فممن وثقهم ابن معين من هذا الضرب الأسقع بن الأسلع، والحكم بن عبد الله البلوي، ووهيب بن جابر الخيواني، وممن وثقه النسائي: رافع بن إسحاق، وزهير بن الأقمر، وسعد بن سمرة و آخرون."
فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن جل اعتمادهم في التوثيق، إنما هو على سبر حديث الراوي، ومراعاة لقرائن الأحوال.
¥