الوجه الثاني: أن عدم دعاء الملائكة إذا أحدث لا لكونه عصى بالحدث، ولكن لكونه أخل بشرط دعاء الملائكة وهو الطهارة، كما لو أحدث في صلاة نافلة فتبطل صلاته لإخلاله بالشرط، لا لعصيانه بالحدث لعدم وجوب الاستمرار فيها.
ونوقش: أن مجرد الحدث في المسجد أذية؛ لحديث أبي هريرة ?، وفيه أن رسول الله ? قال: " .... وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه وتصلي - يعني عليه - الملائكة في مجلسه الذي يصلي فيه: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يؤذ يحدث فيه" ().
2 - حديث أنس ?، لما بال الأعرابي في المسجد، وفيه قوله ?: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا القذر" ().
3 - حديث جابر ?، أن النبي ? قال: "من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس" ().
والريح في معنى ذلك، وأذية الملائكة والأنس محرمة.
ودليل من قال بالكراهة بما يلي:
1 - حديث أبي هريرة ? المتقدم، وفيه قوله ?: "ما لم يحدث" ففيه جواز إخراج الريح في المسجد، لكن ينهى عنه لحرمة المسجد.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن قوله ?: "ما لم يحدث" بيان للعقوبة، لا لجواز الحدث.
2 - القياس على أكل الثوم والبصل فإنه يكره حضوره المسجد لرائحته، فكذا إخراج الريح.
ونوقش: بعدم تسليم الأصل المقيس عليه فقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى تحريم حضور المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً ونحوهما ().
الترجيح:
الأحوط – والله أعلم - القول بالتحريم، لظاهر ما استدلوا به، ومناقشة دليل القول الآخر؛ ولأن إباحة الحدث في المسجد يلحقه بالحشوش التي هي مأوى الشياطين، والمساجد بيوت الله ومأوى ملائكته، وعلى هذا إذا أراد إخراج الريح يخرج من المسجد، ثم يرجع.
المطلب السادس: الحجامة () والفصد () في المسجد:
اختلف العلماء في ذلك على:
القول الأول: تحريم الحجامة والفصد في المسجد، وإن كان في إناء فيكره.
وهذا مذهب الشافعية ().
القول الثاني: أنه تحرم الحجامة والفصد في المسجد مطلقاً.
وهو مذهب الحنابلة ().
القول الثالث: الجواز عند الضرورة.
وبه قال ابن عقيل ().
الأدلة:
استدل من قال بتحريم الحجامة:
1 - حديث أنس بن مالك ?، وفيه قول النبي ?: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من القذر ولا البول ... " ().
والحجامة كالبول لنجاسة الدم.
ويناقش: بعدم التسليم بنجاسة الدم.
ويجاب عن ذلك: بأنه على تسليم عدم نجاسة البول، فهو داخل في القذر، وقد نهى النبي ? عن القذر في المسجد.
2 - ما يأتي من النهي عن البصاق في المسجد وأنه خطيئة ()، والحجامة من باب أولى.
واستدل على الكراهة إذا كان في إناء: بحديث أنس السابق، وفيه قوله ?: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول ولا القذر" ()، لكن لا يحرم؛ لعد تلويث المسجد.
واستدل من قال بالتحريم مطلقاً وإن كان في إناء: أن الهواء تابع للقراء، فإذا حرم في أرضه () حرم في هوائه.
واستدل من قال بالجواز:
1 - ما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي ? "اعتكفت معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم فربما وضعت الطست تحتها من الدم" ().
ونوقش: بالفرق؛ إذ المستحاضة لا يمكنها التحرز من دم الاستحاضة إلا بترك الاعتكاف، بخلاف المحتجم.
2 - ما رواه زيد بن ثابت ?، أن النبي ?: "احتجم في المسجد" ().
لكنه لا يثبت. قال مسلم: إن ابن لهيعة أخطأ فيه حيث قال احتجم بالميم، وإنما احتجر، أي اتخذ حجرة.
الترجيح: الراجح – والله أعلم - القول بعدم جواز الحجامة في المسجد؛ لما في ذلك تلويث المسجد وتقذيره، والأقرب أيضاً عدم الجواز حتى وإن كان في إناء لما علل به الحنابلة.
المطلب السابع: البصاق في المسجد:
اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: تحريم ذلك مطلقاً، وكفارة ذلك دفنها.
وهو ظاهر مذهب الحنفية ()، وبه قال النووي ()، وهو مذهب الحنابلة ().
لكن عند الحنفية: إن اضطر إلى ذلك كان البصق فوق الحصير أهون من البصق تحته؛ لأن الحصير ليس منه حقيقة، وما تحته مسجد حقيقة.
القول الثاني: يجوز إن أراد دفنها، وإن لم يرد دفنها فلا يجوز.
وبه قال القاضي عياض ()، والقرطبي ()، وبه قال المجد ().
القول الثالث: يجوز للمحتاج، ولا يجوز لغير المحتاج.
وبه قال بعض الشافعية ().
¥