اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا نذر الاعتكاف بأحد المساجد الثلاثة هل يتعين بالنذر أو لا؟ على أقوال:
القول الأول: أنه إذا عين الفاضل لم يجزئ المفضول، ولا عكس. فإذا نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يجزئ في المسجد النبوي والمسجد الأقصى، وإذا نذر الاعتكاف في المسجد النبوي لم يجزئ المسجد الأقصى، وإذا نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى أجزأ في المساجد الثلاثة كلها.
وهو قول جمهور أهل العلم ().
القول الثاني: أنه يجزئه الاعتكاف في كل مكان.
وهو قول الحنفية ().
الأدلة:
استدل الجمهور على أنه إذا عين الفاضل لزمه ولم يجزئ المفضول، ولا عكس.
1 - حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي ? قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" ().
وجه الدلالة: أن الحديث دل على وجوب الوفاء بنذر الطاعة، وهو عام في أصل النذر، ووصفه، والمكان من الوصف، ولا يخرج الناذر عن موجب نذره إلا بأدائه في المكان الذي عينه، فيلزمه.
2 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب ? قال: قلت يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ فقال رسول الله ?: "أوف بنذرك" ().
فقوله ?: "أوف بنذرك" أمر والأصل في الأمر الوجوب، فدل ذلك على أن من نذر الاعتكاف في مكان فإنه يلزمه، ولم يكن له الاعتكاف في غيره.
ونوقش: بأن قوله ?: "أوف بنذرك" يحتمل أن يراد به الأمر بالوفاء بأصل النذر، دون وصفه.
ويجاب عن هذه المناقشة من وجهين:
الوجه الأول: أن قوله ?: "أوف بنذرك" حكم مرتب على سؤال، والأصل في الحكم المرتب على السؤال أن يكون عائداً إلى أصل الحكم ووصفه إلا بدليل يدل على التفريق، ولا دليل على إخراج الوصف، فيكون معتبراً.
الوجه الثاني: أنه لو كان المراد الوفاء بأصل النذر دون وصفه، لقال له اعتكف في مسجدي هذا، كما قال لمن نذر الصلاة في المسجد الأقصى: "صل ههنا" ()؛ لأنه أرفق بعمر ? وأيسر.
وأجيب عن هذه المناقشة: بأن عمر ? إنما سأل عام الفتح، فسؤاله كان بمكة ().
3 - حديث أبي هريرة ? أن النبي ? قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" ().
أفاد الحديث: جواز شد الرحل إلى أحد المساجد الثلاثة، ويترتب على ذلك: أنه لو نذر الاعتكاف في أحدها لزمه ذلك، لكن يجوز الانتقال إلى المفضول؛ لما يأتي.
4 - حديث أبي هريرة ? أن النبي ? قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" ().
وفي حديث جابر ? أن رسول الله ? قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" ().
وفي حديث أبي الدرداء ? أن النبي ? قال: "فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي بيت المقدس خمسمائة صلاة" ().
وإذا كان كذلك فمن نذر الصلاة في المسجد الحرام فقد نذر مائة ألف صلاة، ومن نذر الصلاة في المسجد النبوي فقد نذر ألف صلاة، ومن نذر الصلاة في المسجد الأقصى فقد نذر خمسمائة صلاة ()، وكذا الاعتكاف، وعلى هذا فمن نذر الاعتكاف في أحد هذه المساجد لم يجزئه غيره، إلا الأفضل، لما يأتي.
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا دلالة على تعيّن المساجد الثلاثة لأداء النذر فيه لوجهين:
الوجه الأول: أن غاية ما في هذه الأحاديث إثبات فضل هذه المساجد الثلاثة، ولا يلزم من ثبوت الفضل لمكان تعيَّن الأداء فيه، كالصلوات الخمس، فعلها في المسجد مع الجماعة أفضل وإذا صلاها في بيته سقط الواجب ().
وأجيب عن هذه المناقشة بأمرين:
الأمر الأول: عدم التسليم فإن من صلى في بيته لم تبرأ ذمته من واجب الجماعة في المسجد؛ إذ الجماعة في المسجد واجبة، وإن برئت ذمته من واجب الصلاة.
الأمر الثاني: أنه اجتهاد مخالف لظاهر النص.
الوجه الثاني: أن الصلاة في مسجد النبي ? أفضل من الصلاة في المسجد الحرام، لكن بدون الألف ().
وأجيب عن هذه المناقشة: بعدم التسليم فإن المسجد الحرام أفضل من المسجد النبوي مطلقاً؛ لما تقدم من الأحاديث.
¥