الوجه الثالث: ما ذكره القرطبي بقوله: "ولا يقال فيه - أي حديث عائشة في اعتكاف النبي ? العشر الأول من شوال لما ترك الاعتكاف في رمضان - ما يدل على قضاء التطوع؛ لأنا لا نسلم أنه قضاء بل هو ابتداء؛ إذ لم يجب عليه لا بالأصل ولا بالنذر، ولا بالدخول فيه؛ إذ لم يكن دخل فيه بعد، كيف ومعقولية القضاء إنَّما تتحقق فيما اشتغلت الذمة به، فإذا لم يكن شغل ذمة فأي شيء يقضي؟ غاية ما في الباب أنه ابتدأ عبادة هي من نوع ما فاته" ().
وورد هذا بقول ابن عبدالبر - رحمه الله -: "غير نكير أن يكون النبي ? قضى الاعتكاف من أجل نه كان قد نوى أن يعمله وإن لم يدخل فيه؛ لأنه كان أوفى الناس لربه بما عاهده عليه، وأبدرهم إلى طاعته" ().
3 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أنا وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه فجاء رسول الله ? فبدرتني إليه حفصة وكانت ابنة أبيها، فقالت: يا رسول الله إن كنا صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا، فقال: اقضيا يوماً آخر مكانه" ().
وألحق الاعتكاف بالصيام.
ونوقش الاستدلال: بعدم ثبوت الحديث، وإن ثبت فمحول على الاستحباب.
4 - أنه يلزمه بالشروع فيه كالصلاة النافلة والحج والعمرة ().
ونوقش هذا الاستدلال: أما القياس على الصلاة فغير مسلم فلا يسلم أنها تلزم بالشروع.
وأما الحج والعمرة فلوجود الفرق بينهما وبين الاعتكاف من وجهين:
الأول: أن الحج والعمرة يمضى في فاسدهما ولا يخرج منهما بالإفساد ولا بقطع النية، والاعتكاف ليس كذلك ()، فالحج والعمرة ألزم من الاعتكاف.
الثاني: أن الكفارة تجب في إفساد فرضهما ونفلهما بخلاف الاعتكاف ().
الترجيح:
الراجح – والله أعلم - عدم وجوب القضاء لمن خرج من اعتكافه المستحب بعد الشروع فيه؛ إذ الأصل براءة الذمة.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "ولو قطعه مدة لم يلزمه قضاؤه؛ لن من اصلنا المشهور: أنه لا يلزم بالشروع إلا الإحرام، لكن يستحب له إتمامه وأن يقضيه إذا قطعه.
وكذلك لو كان له ورد من الاعتكاف ففاته استحب له قضاؤه؛ لأن النبي ? ترك اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان لما ضرب أزواجه الأبية ثم قضاه من شوال ()، ولم يأمر أزواجه بالقضاء؛ لأنه لم يكن من عادتهن وإنما عز من عليه ذلك العام، ولأن قضاءه غير واجب، ولأنهن لم يكن شرعن فيه وهو ? قد شرع فيه؛ لأن المسجد كله موضع للاعتكاف وهو قد دخل المسجد حين صلى بالناس فالظاهر أنه نوى الاعتكاف من حينئذٍ؛ لأنه لم يكن في نيته الخروج منه بعد ذلك" ().
المبحث الثاني: قضاء الاعتكاف الواجب على الحي:
إذا أفسد المعتكف اعتكافه الواجب بمبطل من مبطلات الاعتكاف المتقدمة وجب عليه استئنافه بصفته؛ لعدم براءة ذمته منه، إلا إذا كان أياماً لا يشترط فيها التتابع فما مضى منها صحيح، ويقضي ما بقي، وإن كان أياماً متتابعة فيلزمه الاستئناف لإمكانه أن يأتي بالمنذور على صفته، وإن كانت أياماً معينة لزمته كفارة يمين لتفويت الزمن ().
لحديث عقبة ? أن النبي ? قال: "كفارة النذر كفارة يمين" ().
المبحث الثالث: قضاء الاعتكاف الواجب على الميت:
إذا نذر شخص اعتكاف زمن وتمكن من ذلك، لكنه فرط حتى مات فهل يشرع لوليه أن يقضي عنه هذا الاعتكاف؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يستحب لوليه أن يقضيه عنه، فإن لم يفعل أطعم من تركته إن خلف تركة.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة ().
القول الثاني: لا يستحب لوليه أن يقضيه عنه ولكن يطعم عنه إن أوصى.
وهو قول جمهور أهل العلم ().
الأدلة:
أدلة الحنابلة:
استدل الحنابلة على مشروعية قضاء الاعتكاف الواجب عن الميت بما يلي:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ?: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" ().
فيلحق الاعتكاف بالصيام فإنه أشبه به من الصلاة.
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث من وجوه:
الوجه الأول: أنه مؤول على معنى إطعام الحي عنه إذا مات وقد فرط في الصوم، فيكون الإطعام قائماً مقام الصيام، ونظير ذلك قوله ?: "الصعيد الطيب وضوء المسلم" () فسمى التراب وهو بدل باسم مبدله وهو الوضوء، وهذا تأويل الماوردي ().
¥