أما شرطك الأول فهو ظاهر في مسألتنا هذه على الخصوص، حين رددت الأثر لوجود عبدالمنعم بن إدريس واستندت على قول الإمام أحمد فيه حين قال عنه "كان يكذب على وهب بن منبه"، وسأعالج المسألة من باب السند، وإن كنت أقول بجواز الرواية عنه في ما لا ينسب لشريعتنا الغراء.
هو غيرُ ثقةٍ غيرُ مأمونٍ ساقطُ الحديثِ كذّابٌ غيرُ مُصَدَّقٍ يَفتري على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويضع عليه الأحاديث، أفيُؤتمَن على ما هو أهون مِن ذلك! بل مرويّاته مردودة ولا كرامة.
قول الإمام أحمد مجمل فسره غيره ما رمي به بالكذب سيتضح لك أصله ومقصده إن جمعت ما قيل في حقه: قال ابن حبان: "يضع الحديث على أبيه"، وهذا لأن الإمام أحمد أفصح فقال: "لم يسمع من أبيه شيئاً". إذن من رماه بالوضع قصد أنه يروي عن أبيه ما لم يسمعه منه، وهذا ظاهر حين قال الفلاس: "متروك، أخذ كتب أبيه فحدث بها، ولم يسمع من أبيه شيئا".وكذلك قال ابن معين وابن المديني والساجي.
إذن نرى أنّ ما رواه عن أبيه له أصل هي كتب أبيه، ثم حدث بها نسابً السماع منه، أي أنه لم يضع الحديث فعلاً، كما ترى بل نسب إلى نفسه سماع ما حدث به، والأمر خلاف ذلك. وهذا لأن عبدالمنهم بن إدريس قصاص، فتأمل.
أختلف معك طبعاً، فليس في كلام الأئمة لبسٌ أو غموضٌ حتى تتأوَّله على هذه الشاكلة. أعدتُ لك أقوالهم أكثر مِن مرّة، ولم تزل تصرّ على أن الموضوع كلّه أن عبد المنعم كان يُحدّث مِن كُتب أبيه لا أكثر ولا أقل. فإن كنتَ مقتنعاً بهذا فكما ترى، لكنّ عبد المنعم موصوف بانتفاء الوثاقة عنه وبالكذب والوضع والخبث وسقوط الحديث، وكلّها جروح تهدّ الجبال. فكيف تتركُ صريحَ ألفاظ الأئمة لتقول: نرى أنه لم يكن يضع الحديث!! فماذا هذا التعسّف أكرمك الله؟
إذا كنتَ تقبل رواية عبد المنعم بن إدريس فكما ترى، لكن لا تُخرجْ أقوالَ علماء الجرح والتعديل عن مقتضاها بهذه الصورة العجيبة.
أما ما نقله من أخبار وقصص عن الأمم السابقة في أخبار في أخبار لا يجزم بصدقها ولا نكذبها إلا إن وجدنا في متنها محذور شرعي، لذا نأخذها دون تصديق ولا تكذيب وإنما من باب العبرة والإعتبار.
انظر رعاك الله إلى هذا المعنى اللطيف: وهو أنك إن صدّقتَ خبراً إسرائيلياً ابتداءً فربّما كان كذباً، وإن كذّبتَه ابتداءً فربّما كان صدقاً. هذا في الأمر المحتمل الموقَّف فيه. فكيف إذا كان الكذب منصوصاً عليه متَّهَماً به راوٍ مشهورٌ بالوضع وردَّ الأئمة مرويّاته التي نسبها زُوراً إلى وهب بن منبه؟ إذا كان الأئمة نصّوا على أنها كذب، فكيف تقول إنها لا تصدّق ولا تكذّب؟ الخلاف قائمٌ بيننا لم يزل.
ما ذكره الخطيب يشمل أخبار بني إسرائيل وأنبيائهم فالصالحين وصف يشمل أنبيائهم وعبادهم أيضاً.
ما الدليل على ذلك؟
إن كان ما روي يُنسب إلى النبي المصطفى أو أحد صحبه ممن لم يعرف بنقله أخبار بني إسرائيل فيرد الحديث بلا خلاف. أما إن ورد الخبر عمن عرف بنقله أخبار بني إسرائيل أو على أنه من أخبار بني إسرائيل، فلا بأس بالأخذ به، ما لم يوجد في الخبر ما يخالف نصاً أو أصلاً عندنا. وهذا وجه تفريقي ولا أعني بجواز الرواية التصديق، فها لا يلزم على الإطلاق، لذا لم يشترط أهل العلم السند في ما كان في هذه الأخبار لأنها من باب الأخبار والمواعظ.
هذه الرقاق تُكتَب ولا يُحتجّ بها. في حين أجدك هنا ترفضُ بشدّة أن نردّها، مع أن رَدَّها هو الأصل والتساهُلَ فيها هو الجواز كما لا يخفى.
إن أتى الخبر بسند صحيح مثل الشمس إلى وهب بن منبه، ثم قال حدثنا اليهودي بكذا وكذا عن بني إسرائيل، فهل تعمل قواعد أهل الحديث على هذا الخبر فترده لأن ناقل الخبر يهودي كافر معروف بالكذب والوضع، ولا يصح الرواية عن كافر أو كذاب مما هو معلوم لديكم؟ أم تجوز الرواية عنه بالرغم من ذلك؟ أظن إجابتك أنك ستجوز الرواية عنه بلا ريب بالرغم من تيقنك من كذبهم.
عن نفسي أطرحُ جميع الإسرائيليات ولا أقيمُ لها وزناً، ففي الحقّ الذي بين أيدينا كفاية. فهي إما أن تكون كذباً صريحاً، فهي مردودة. وإما أن تكون موافقة لديننا، فلسنا بحاجة إليها وقد أغنانا الله عنها. وإن كانت مِن المسكوت عنه، فلا احتجاج بها.
لذا أقول: لو أتى الخبر بلا سند لقبلته أصلاً بلا تصديق أو تكذيب ما زال أن متن الدعاء لا مشاحة فيه. فإن قبلت خبر اليهودي وهو أكذب أهل الأرض في ما خصهم، دون تصديق أو تكذيب، فمن باب أولى أن أقبل خبر المسلم الكذاب في ما نقله عن من هو أكذب منه فقط في هذا الباب.
كما أنَّ تشدُّدَ المتشدِّدِ ليس مُلزِماً للمتساهِل .. فكذلك تساهُلُ المتساهِلِ ليس مُلزِماً للمتشدِّد.
والله أعلى وأعلم، وجزاك الله خيراً على هذه المدارسة
ـ[أم ديالى]ــــــــ[15 - 10 - 09, 05:58 م]ـ
شيخنا الجليل العالم د. عيسى السعدي حفظه الله وأمد في عمره ونفعنا بعلمه ... آمين
...
اللهم فرج همه وعافه من كل أذى وسوء يارب العالمين
قطعت جهيزة كل خطيب
لا حرمكم الله الاجر
وحفظ الله الشيخ عيسى ونفعنا بعلمه.
¥