الحال الأولى: أن يكون أول العمل مرتبط بآخره مثل: الصلاة يعني الصلاة شيء واحد ما تتجزأ فهنا يحبط العمل لأنه ترسخ فيه وصار عملًا فيه رياء وفيه شرك؛ لأن الله لا يقبل من العمل ما أشرك معه فيه غيره.
أما إذا كان العمل لا يرتبط أوله بآخره مثل الصدقة ومثل الذكر ومثل قراءة القرآن ومثل التسبيح، فهذه يحبط العمل الذي قارنه الرياء، وأما أول العمل الذي لم يدخله الرياء فإنه لا يحبط؛ يعني مثلًا: لو أن شخصًا تصدق بمائة فنصفها كان خالصًا والنصف الأخير دخله الرياء. هنا نقول: يحبط النصف الأخير فقط لأن الأول لا يرتبط بالآخر.
أو أنه سبح الله -عز وجل- وصلى على النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- مثلًا مائة وبعضها كان خالصًا وبعضها دخله الرياء، فأيضًا يدخلها التقسيم، ومثله قراءة القرآن وغير ذلك من الأعمال التي تتجزأ، فما دخله الرياء وخالطه وتمكن من الشخص وصار مشاركًا له في النية فإنه يحبط العمل والعياذ بالله.
29 - فيه هنا حقيقة أيضًا تنبيه يحسن أن نتنبه إليه: وهو أن الشخص أحيانًا يعمل عمل لله -عز وجل-، ثم إن هذا العمل يظهر ويذكره الناس بخير ويمدحونه، فربما يسَّر بهذا، فما حكمه؟ هل هذا يكون مرائيا أو لا؟ نقول: إن هذا لا يدخل في الرياء ما دام أنه أصلا عمل والعمل هو لله -عز وجل- وإنما هذا من الذكر الحسن، وقد دل على ذلك الحديث الصحيح الذي جاء في هذا المعنى أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- (سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس. فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن) فإذا حمده الناس فهذا من الثناء الحسن، ولكن هنا أيضًا تنبيه ينبغي أن نتنبه إليه: وهو أن على الإنسان ألا يتطلع للمحامد، وألا يتحرى لمحامد الناس وثنائهم؛ لأن بعض الناس يقول: أنا أعمل العمل لله لكن تجده ينتظر متى يحمده الناس، ينتظر ثناء الناس ومدحهم، أو ربما ينتظر المنزلة عندهم والعياذ بالله، هذا لا شك أنه يقدح، هذا من الغرور من الغرور رؤية الأعمال، والتطلع إلى ثناء الناس، وتعظيم الناس، واحترام الناس، يحترمونه لأجل دينه أو لأجل إخلاصه أو لأجل علمه هذا مما يقدح في الإخلاص؛ إذا كان يتطلع ويتحرى وينتظر، أو وربما صار في نفسه أحيانًا يقول: كيف وأنا فلان الفلاني المحسن الكبير، أو العالم الكبير أو العابد كذا، أو الولي ونحو ذلك، ولا يحترموني، ولا يقدروني، هذا من الغرور، ربما أن هذا العاصي أفضل منك، لأنك أنت مغتر بعملك، وتنتظر أن يمدحك الناس.
فالمهم أن الناس هنا مراتب فبضعهم يتطلع إلى المدح والثناء هذا مكروه كما قلنا ومبغض، من الناس من لا يغتر ولكنه إذا سمع الثناء وإذا سمع أن عمله عُرِفَ ربما يسر بالثناء، فنقول: إن سرورك بالثناء من باب أن هذا نعمة من الله -عز وجل- أنك وفقك الله لهذا العمل، فهذا لا ضير، لكن إذا كان فرح بأن عمله ظهر، وصار الناس يعرفون أنه عمل الأعمال الطيبة فربما يدخل أيضًا في المكروه.
أسوأ من ذلك من يظهر عمله تصريحًا أو تلميحًا وهذا يدخل في التسميع، قد يكون عملا عمله لله -عز وجل- في الخفاء، ولكنه أبداه يتحدث به في المجالس، يصرح، أو يلمح، أو نحو ذلك، لأجل أن يتحدث به، ولأجل أن يكسب منزلة، فهنا هو يخسر من الأجر بقدر ما يعمل لإظهار الأعمال.
كان السلف -رحمهم الله تعالى- يحرصون على إخفاء أعمالهم أكثر من حرصنا على إخفاء ذنوبنا وعيوبنا، نحن نخفي عيوبنا، وربما الواحد يحب أن يظهر عمله. أما السلف الصالح فكانوا يخفون أعمالهم،
30 - أيضًا من العلامات استواء المدح والذم فالمخلص يعمل العمل لا يحدوه أو يدفعه مدح ولا يخذله ذم، أما المرائي فإنه إذا مدح اندفع وعمل، وإذا لم يسمع مدح أو سمع ذم فإنه يكسل ويتخاذل ويترك، هذا من علامة الرياء وأما المخلص فإنه يستوي عنده المدح والذم كما يستوي عنده الباطن والظاهر، باطنه كظاهره لا اختلاف فيه
40 - ولكن المذموم المدح، والمدح هو الذبح كما يقال، والقطع للعنق كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- (قطعت عنق صاحبك) والمقصود بهذا المدح هو الإطراء إطراء أو مدح بغير حق أو زيادة على المشروع أو مدح يضر الممدوح فهذه هي المنهي عنها إذا كان المدح يضر الممدوح بحيث يوقعه في الغرور أو يوصل إلى الإطراء أو المدح بغير حق؛ كذب كما في المداحين خاصة من الشعراء وغيرهم ممن هم ? فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ?225? وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ?226?? فهذا هو المذموم. الإنسان يكون مداحا أيضًا مداحا مشهور بأنه مداح لا تكاد تسمع منه إلا مدحا يمدح من يستحق ومن لا يستحق فهذا هو المذموم.
أما إذا كان بقدر وبما يشجع فهذا مشروع ومما يدل عليه قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لأبي بكر (إنك لست منهم) أي من الذين يجرون ثيابهم خيلاء، وقوله لعكاشة (أنت منهم) أو في رواية (اللهم اجعله منهم) وأيضًا وصف بعض الصحابة بأنه أعلمهم بالفرائض، وفلان هو أشدهم كذا، وقوله لعمر -رضي الله عنه- (إيه يا ابن الخطاب ما رآك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك) هذا مدح لعمر -رضي الله عنه-.
فالمهم أن المدح إذا كان بقدر وبشيء معقول وبشيء صدق هذا لا بأس به. أما إذا كان بإطراء أو بكذب أو بما يضر فهذا هو الممنوع والله أعلم.
¥