تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال الإمام ابن قدامة المقدسي -إمام الحنابلة في زمانه- في كتابه العمدة «المُغْنِي» (5/ 468 ط دار هجر 2، 1412ه): «ولا يُستَحَبُّ التَّمَسُّحُ بحائط قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقبيله، قال أحمد: ما أعرفُ هذا. قال الأثرم: رأيتُ أهل العلم من أهل المدينة لا يمسُّونَ قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، يقومون من ناحيةٍ فيُسَلِّمُون. قال أبو عبد الله -الإمام أحمد-: وهكذا كان ابن عمر يفعل».

وقد نقل القاضي أبو يعلى الحنبلي -وهو من متقدمي الأصحاب- (ت: 458ه) هذه الرواية وقال بعدها: «وهذه الرواية تدل على أنه ليس بِسُنَّةٍ وَضْعُ اليَدِ على القبر ... ووجهها أن طريق القربة تقف على التوقيف ولهذا قال عمر رضي الله عنه في الحَجَر الأسود: لولا أني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلكَ ما قبَّلتُكَ». [«الروايتين والوجهين» تأليفه (1/ 215) ط المعارف الرياض ط 1، 1405ه].

وقال السمهودي في «وفاء الوفاء» (4/ 1402) ط دار إحياء التراث العربي بيروت 1401ه] في مجرد وضع اليد على القبر: «قد أَنْكَرَهُ مالك والشافعي وأحمد أشدَّ الإنكار» اه. هذا مجرد وضع فكيف بالتبرك؟!

الوجه الثاني في الجواب عن رواية التبرك بالقبر: أنه ذكر بعض أصحاب الإمام أحمد رحمه الله أن ما جاء عن الإمام في هذه المسألة من جواز مس القبر ليس المقصود منه التبرك، وإنما هو بمعنى مصافحة الحي، يقول القاضي أبو يعلى الحنبلي رحمه الله (ت: 458ه) في «الروايتين والوجهين» (1/ 215): «ووجه الرواية الأولى -مس القبر - أن الزِّيارة للميت جارية مجرى زيارة الحي، ولهذا يُستحب أن يُسَلِّمَ على الميت عند قبره، كما أنه يستحب أن يسلِّم على الحي، ويستحب مصافحة الحي، فجاز أن يستحب مس قبره، لأنه في معنى المصافحة» اه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «الاقتضاء» (2/ 727): «والفرقُ بين الموضِعَيْن ظاهِرٌ».

وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي (ت: 763ه) رحمه الله: «وقد ذكر القاضي أبو الحسين أنه هل يستحب وضع اليد على القبر؛ لأنه في معنى مصافحة الحي؟ صححها أبو الحسين، أو لا يستحب لأن طريقه القربة يقف على التوقيف، بدليل قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – في الحجر الأسود ... » «الآداب الشرعية» تأليفه (3/ 221) مؤسسة الرسالة بيروت ط 2، 1417ه].

الوجه الثالث: أن هذه الرواية لا تصح بوجه من الوجوه، ولعلها مدسوسة في نسخ كتاب عبد الله ابن الإمام أحمد، وذلك لأمرين: الأول أن هذه الأمور لا تعرف عن أحمد. كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» [(3/ 555) ط الريان ط 1، 1407ه] أن بعض أصحاب الإمام أحمد استبعد ثبوت ذلك عن أحمد.

الثاني: أن هذه الرواية تخالف الإجماع المعتبر عند أهل العلم، وهو محكي عن أحمد وغيره من أئمة الدين، وقد نقل الحافظ النووي الشافعي (ت: 676ه) الإجماع على المنع من تقبيل القبر أو مسحه باليد انظر: «الإيضاح في مناسك الحج والعمرة» تأليفه (456) دار البشائر بيروت ط2، 1414ه]، ونقل الإجماع أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728ه) ينظر «مجموع فتاوى ابن تيمية» (27/ 80)، والعلامة مرعي الكرمي في «شفاء الصدور» (179) وغيرهم ... وليس كما زعم «المتروك» أن ابن تيمية انفرد بحكاية الإجماع.

الوجه الرابع: أن العبادات مبناها على التوقيف، ونحن ندور مع السُّنة حيث دارت، فلا يصح شيء من العبادات إلا بدليل ثابت وهذا هو مذهب أحمد وطريقته فالأثر المزعوم يناقض مسلكه ومنهجه.

قال القاضي أبو يعلى الحنبلي (ت: 458ه) في مسألة تقبيل المصحف وتوقف الإمام أحمد في هذه المسألة: «إنما توقف عن ذلك وغن كان فيه رفعةٌ وإكرامٌ؛ لأنَّ ما طريقه القُرَب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يُسْتَحبُّ فعله وإن كان فيه تعظيم إلا بتوقيف» [نقله ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (2/ 273)].

فهل وَرَدَ عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو غيرهم من الصحابة التمسح بقبره أو التبرك به وهم أشد الناس حباً وتعظيماً له؟ لم يرد شيء من ذلك بإسناد صحيح، بل لم تعرف هذه الأمور إلا بعدهم بقرون. لأنهم أبعد الناس عن هذه البدع، بل هذه البدع لم تعرف في الأمة إلا في أزمان متأخرة. فقد كان الصحابة يسافرون ويخرجون من المدينة ولا يعرف عنهم أنهم كانوا يأتون قبره ليتمسحوا به أو يتبركوا به حاشاهم رضي الله عنهم وهم حماة التوحيد، وكَمْ مِن مَوْضِعٍ مَرَّ به النبي ج وجلس فيه ووطأته قدماه ونام فيه ... إلخ فهل سنتخذ هذه الأماكن موضعاً للتبرك والتمسح؟!! فإن كان الجواب نعم، فقد أصبح المسلمون في وثنية عظيمة فكل المدينة مشى فيها النبي ج فهل نمشى فيها ونتمسح بحيطانها وأرضها وجبالها وسهولها؟!! وهل يقول بهذا عاقل؟ وهل فعل شيء من هذا القرن الأول المبارك بل القرون الثلاثة؟! فهذه الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها نحواً من ألف وأربعمائة من الصحابة ورضي الله عنهم بهذه البيعة ووعدهم بالجنة ومع ذلك قطعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه حماية لجناب التوحيد وسداً لذريعة الشرك.

وإذا كان المسجد الحرام والمسجد النبوي ليس فيهما ما يقبل ويمسح إلا الحجر الأسود والركن اليماني فكيف يكون في القبور ما يمسح ويقبل ويتمرغ عليه؟!

فلا بد إذن -والحالة هذه- أن يصار إلى المنع وأن هذا مذهب أحمد وجماهير الأمة بل عليه إجماعهم.

فمما تقدم يتبين أنَّ ما نُقِلَ عن أحمد مما يخالف الإجماع المعتبر لا يخلو من حالين: إما أن يكون ضعيفاً شاذاً مخالفاً لرواية الثقات، أو أن يكون مدسوساً في نسخ «العلل» وخفي هذا على من حققها.

هذا بخصوص قول الإمام أحمد بن حنبل، أمَّا موقف علماء الكويت من بدع القبور فهذا ما سنسطِّرُه في مقالاتٍ لاحِقَةٍ إن شاء الله ...

وكتبه / دغش بن شبيب العجمي

نشر هذه المقال في صحيفة الوطن الكويتية

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير