وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيزاً، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفى والإنتقام، كما هجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أصحابه الثلاثة الذي خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق.
وهذا مبني على مسألتين:
إحداهما: أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه - كما تقوله الخوارج - بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما يقوله المعتزلة.
الثاني: أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية.
وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها.
وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية.
ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
وقد يسلكون في التكفير ذلك، فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقاً، ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع، وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية.
وهذا القول أيضا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة، وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفر كل مبتدع.
بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك.
ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر.
ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله، مع الجهل والتأويل.
فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه.
وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين فيستغفر لهم ويترحم عليهم، وإذا قال المؤمن: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوَّله، فخالف السنة، أو أذنب ذنبا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم.
وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا، بل مؤمنين، فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين.
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل إنهم يخلدون في النار.
فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته.
فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة، من جنس بدع الرافضة والخوارج.
وأصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - - عليُّ بن أبي طالب وغيره - لم يكفِّروا الخوارج الذين قاتلوهم، بل أوَّل ما خرجوا عليه، وتحيَّزوا بحروراء، وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم علي بن أبي طالب 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -: إنَّ لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا، ولا حقكم من الفيء، ثم أرسل إليهم ابن عباس، فناظرهم فرجع نحو نصفهم، ثم قاتل الباقي وغلبهم.
ومع هذا لم يسب لهم ذرية، ولا غنم لهم مالاً، ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله.
بل كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة، ولم ينكر أحد على عليٍّ ذلك.
فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام.
قال الإمام محمد بن نصر المروزي: وقد ولى علي رضي الله عنه قتال أهل البغي.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى، وسماهم مؤمنين، وحكم فيهم بأحكام المؤمنين، وكذلك عمار بن ياسر.
وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى ين آدم عن مفضل بن مهلهل عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: كنت عند عليٍّ حين فرغ من قتال أهل النهروان، فقيل له: أمشركون هم؟
قال: من الشرك فرُّوا.
فقيل: فمنافقون؟
قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً.
قيل: فما هم؟!
قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم.
وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن مسعر عن عامر بن سفيان عن أبي وائل قال: قال رجل من دُعي إلى البغلة الشهباء يوم قتل المشركون؟
¥