أما التصوف؛ فكان مستغرقا في مقام الأحمدية، يكتب في المعارف اللدنية على طريقة الحاتمي والجيلي وابن سبعين، إليه المرجع في فك غوامض أقوالهم، وحل مقفل علومهم، يستدل لغوامض علوم الباطن بالكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، حتى قال في رسالته "الولاية الذاتية" بعد حديثه عن استغراقه فيها أولا: "ولو دمنا على ذلك الحال؛ لغيرنا القوانين الملكية من حيث الترتيب الشرعي، لأنه يصير كل من جالسنا عارفا، لا بالمعرفة المنقولة عن فلان وفلان، بل معرفة لو سمعها الحكيم الترمذي والحاتمي؛ لقالا: هذه ضالتنا. وألقى كل منهما عصا التسيار وجلسا، وكان التلاميذ يرون أن ذلك هو البداية، مع أن ذلك كان من أقصا نهايات العارفين ... ".
وكان له مزيد اعتناء بالشمائل النبوية المحمدية والأحمدية؛ بحيث جل مؤلفاته في الكمالات المحمدية، والتي تعد مدرسة مهمة في الفكر الإسلامي ندر من بحث فيها من العارفين عن طريق العلم اللدني، وعلم الباطن.
وقد ظهر بطريقته الأحمدية الكتانية التي يعدها جمعت ما تفرق في غيرها، بل وفاقتهم جميعا، وتحدث عن مقامات التصوف والمعرفة الإلهية بزعامة وتبجح لم تعهدا إلا عند الأكابر.
وفي عام 1320 تقريبا قربه المولى عبد العزيز مستشارا له؛ لانفراده علما وذكاء، وسعة نفوذه في أوساط القبائل والمدن المغربية، بحيث كان يعد أتباعه في زمانه بمليون شخص.
وفي عام 1321 سافر للمشرق بنية الحج، والتقى فيه بزعماء الدول التي زارها، وزعماء الإصلاح والعلم، واطلع عن كثب على مؤامرات ومخططات الاستعمار ضد العالم الإسلامي، وربط علاقات بمملكة أفغانستان، والخلافة العثمانية، وخديوي مصر عباس باشا.
ثم عاد إلى المغرب السنة الموالية مرسخا الفكر الإصلاحي، وكتم ما كان معتنيا بإظهاره من علوم الحقائق وبثها أمام الملأ، وتفرغ لإصلاح البلاد وتحصينها ضد الاستعمار المحدق بها.
كما جعل زاويته الكتانية محطا لأرحال المفكرين والمتفتحين المغاربة، والمشارقة الفارين من المشرق؛ كعبد الكريم مراد، وخير الدين التونسي وغيرهما.
وفي هذه الفترة برز الدور الإصلاحي للشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني، خاصة بعد مواقفه من احتلال فرنسا شرق المغرب (توات، والقنادسة)، ورسمه للخارطة المغربية الجزائرية، وموقفه من احتلال فرنسا لمدينتي وجدة والدار البيضاء، ودعائه من أجل ذلك إلى الجهاد ضد المستعمر الفرنسي، وكذا دعوته إلى ترسيخ نظام اللكية الدستورية، عن طريق إحداث البرلمان، وتدوين دستور للبلاد يكون للشعب الحق من خلاله المشاركة في إدارة البلاد وفقا لتعاليم الشريعة الإسلامية الغراء.
وفي هذا المضمار؛ أنشأ جملة من المفكرين والعلماء مشاريع لدستور مغربي، كما قدم المترجم الدعم المادي والمعنوي لجريدة "لسان المغرب" الصادرة بطنجة، وهي تعد أول جريدة وطنية مغربية. ثم أصدر جريدة "الطاعون" التي كانت مخصصة ضد الهجوم الفكري الغربي الذي كانت تمثله جريدة "السعادة".
ونظرا لانشغال وزراء العهد العزيزي بمصالحهم الخاصة، وانقطاع كل سبل التفاهم بينه وبينهم، مع ظهور بوادر ضياع المغرب عن طريق احتلال أطرافه دون مقاومة، وانهيار ميزانيته الاقتصادية، ولم تجد في ذلك نصيحة الناصحين ولا جهود المترجم الإصلاحية؛ فقد شارك الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني في بيعة السلطان عبد العزيز بن الحسن الأول ملكا على المغرب، وخلع المولى عبد العزيز. غير أن الشيخ الكتاني أصر على اشتراط بيعة المولى عبد الحفيظ بشروط الشورى، وجهاد المستعمر، ورفض قرارات الجزيرة الخضراء ... وغيرها. فتمت البيعة عام 1325 تحت تلك الشروط.
وفي هذه الفترة نشط الشيخ الكتاني في دعوة أتباعه إلى جهاد فرنسا، وحرر مئات الرسائل التي تعد مرجعا هاما في أدب المقومة المسلحة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي، تدعو لمقاومة الغزو، وأخذ الأسباب، والاعتماد على الله تعالى.
وكان لأتباعه في قرى الشاوية وزعير والرحامنة دور مهم في صد العدوان الأجنبي عن المغرب، كما كان لأتباعه في قبيلة زمور الشلح وكروان، وآيت يوسي وآيت صغروشن دور كبير في وقف ثورة أبي حمارة وحسرها في جبال الأطلس إلى انتهائها، مع دورهم الرائد في مقاومة الجيوش الفرنسية الزاحفة نحو فاس.
¥