تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبعض الناس يزعم أن يد السائل الآخذ هي العليا؛ لأن الصدقة تقع بيد الحق، وهذا خلاف نص رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر، أن يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى.

وقول القائل: إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا.

فيقال له: هذا لا يمنع وجوب الأسباب على ما يجب، فإن فيما ضمنه رزق الأطفال والبهائم والزوجات، ومع هذا، فيجب على الرجل أن ينفق على ولده وبهائمه وزوجته، بإجماع المسلمين ونفقته على نفسه أوجب عليه.

وقول القائل: كيف يطلب مالا يعرف مكانه؟

جوابه: أنه يفعل السبب المأمور به، ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته؛ مثل الذي يشق الأرض، ويلقي الحب، ويتوكل علي الله في إنزال المطر، وإنبات الزرع، ودفع المؤذيات، وكذلك التاجر غاية قدرته تحصيل السلعة ونقلها، وأما إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها، وبذل الثمن الذي يربح به، فهذا / ليس مقدورًا للعبد، ومن فعل ما قدر عليه لم يعاقبه الله بما عجز عنه، والطلب لا يتوجه إلى شيء معين، بل إلى ما يكفيه من الرزق، كالداعي الذي يطلب من الله رزقه وكفايته من غير تعيين.

فصل

فإذا عرف ذلك، فمن الكسب ما يكون واجبًا، مثل الرجل المحتاج إلى نفقته على نفسه، أو عياله، أو قضاء دينه، وهو قادر على الكسب، وليس هو مشغولاً بأمر أمره الله به، هو أفضل عند الله من الكسب، فهذا يجب عليه الكسب باتفاق العلماء، وإذا تركه كان عاصيًا آثمًا.

ومنه ما يكون مستحبًا، مثل هذا إذا اكتسب ما يتصدق به، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على كل مسلم صدقة "، قالوا: يا رسول الله! فمن لم يجد. قال: (يعمل بيده ينفع نفسه ويتصدق). قالوا: فإن لم يجد. قال: (يعين ذا الحاجة الملهوف). قالوا: فإن لم يجد، قال: (فليأمر بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة).

/ فصل

وأما قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقًا،

فليس الأمر كذلك، بل عامة الأنبياء كانوا يفعلون أسبابًا يحصل بها الرزق، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في المسند عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم). وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه)، وكان داود يأكل من كسبه، وكان يصنع الدروع، وكان زكريا نجارًا، وكان الخليل له ماشية كثيرة حتى إنه كان يقدم للضيف الذين لا يعرفهم عجلاً سمينًا، وهذا إنما يكون مع اليسار.

وخيار الأولياء المتوكلين، المهاجرون والأنصار، وأبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أفضل الأولياء المتوكلين، بعد الأنبياء. وكان عامتهم يرزقهم الله بأسباب يفعلونها، كان الصديق تاجرًا، وكان يأخد ما يحصل له من المغنم، ولما ولى / الخلافة جعل له من بيت المال كل يوم درهمان، وقد أخرج ماله كله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت لأهلك؟) قال: تركت لهم الله ورسوله، ومع هذا فما كان يأخذ من أحد شيئًا لا صدقة، ولا فتوحًا، ولا نذرًا، بل إنما كان يعيش من كسبه.

بخلاف من يدعي التوكل ويخرج ماله كله ظانًا أنه يقتدى بالصديق، وهو يأخذ من الناس إما بمسألة وإما بغير مسألة، فإن هذه ليست حال أبي بكر الصديق، بل في المسند: أن الصديق كان إذا وقع من يده سوط ينزل فيأخذه، ولا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا. فأين هذا ممن جعل الكدية وسؤال الناس طريقًا إلى الله، حتى إنهم يأمرون المريد بالمسألة للخلق.

وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم مسألة الناس، إلا عند الضرورة، وقال: (لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع) وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8]، فأمره أن تكون رغبته إلى الله وحده.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير