ومن هؤلاء من يجعل دعاء الله ومسألته نقصًا، وهو مع ذلك يسأل الناس ويكديهم، وسؤال العبد لربه حاجته من أفضل العبادات، وهو طريق أنبياء الله، وقد أمر العباد بسؤاله فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، ومدح / الذين يدعون ربهم رغبة ورهبة. ومن الدعاء ما هو فرض على كل مسلم، كالدعاء المذكور في فاتحة الكتاب.
ومن هؤلاء من يحتج بما يروى عن الخليل أنه لما ألقى في النار قال له جبرائيل: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، قال: سل. قال: (حسبي من سؤالي علمه بحالي). وأول هذا الحديث معروف، وهو قوله: أما إليك فلا؛ وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: حسبنا الله ونعم الوكيل، أنه قالها إبراهيم حين ألقي في النار. وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.
وأما قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فكلام باطل، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل، وغيره من الأنبياء من دعائهم لله ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة، كقولهم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، ودعاء الله وسؤاله والتوكل عليه عبادة لله مشروعة بأسباب كما يقدره بها، فكيف يكون مجرد العلم مسقطًا لما خلقه وأمر به؟! والله أعلم. وصلى الله على محمد وسلم.
/ سئل شيخ الإسلام عن الرزق: هل يزيد أو ينقص؟ وهل هو ما أكل، أو ما ملكه العبد؟
فأجاب:
الرزق نوعان:
أحدهما: ماعلمه الله أنه يرزقه، فهذا لا يتغير.
والثاني: ما كتبه وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب،
فإن العبد يأمر الله الملائكة أن تكتب له رزقًا، وإن وصل رحمه زاده الله على ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه). وكذلك عمر داود زاد ستين سنة فجعله الله مائة بعد أن كان أربعين. ومن هذا الباب قول عمر: اللهم إن كنت كتبتني شقيًا فامحني واكتبني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
ومن هذا الباب: قوله تعالى عن نوح: {أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 3، 4] وشواهده كثيرة.
والأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه، واكتسابه، ألهمه السعي، والاكتساب، / وذلك الذي قدره له بالاكتساب، لا يحصل بدون الاكتساب، وما قدره له بغير اكتساب كموت موروثه، يأتيه به بغير اكتساب. والسعي سعيان، سعى فيما نصب للرزق؛ كالصناعة والزراعة والتجارة. وسعى بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
فصل
والرزق يراد به شيئان:
أحدهما: ما ينتفع به العبد.
والثاني: ما يملكه العبد،
فهذا الثاني هو المذكور في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10]، وهذا هو الحلال الذي ملكه الله إياه.
وأما الأول: فهو المذكور في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقوله: (إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها) ونحو ذلك.
والعبد قد يأكل الحلال، والحرام، فهو رزق بهذا الاعتبار، لا بالاعتبار الثاني، وما اكتسبه، ولم ينتفع به هو رزق بالاعتبار الثاني دون الأول، فإن هذا في الحقيقة مال وارثه لا ماله، والله أعلم.
/ سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام، أوحد عصره، فريد دهره، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ـ رحمه الله ورضى عنه ـ عن الرجل: إذا قطع الطريق وسرق، أو أكل الحرام ونحو ذلك، هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
¥