سند لا أعرف بنفسي رجاله ولا أحوالهم، ولكنا نعرض هذه المأثورات على القرآن فما وافقه كان القرآن هو حجة صدقه، وما خالفه فلا سبيل لتصديقه" (9).
ويتبع أستاذه الأفغاني في موضوع (تقارب الأديان) فقد أسس بعد عام 1885م جمعية سرية للتقريب بين الأديان شارك فيها عدد من رجال الدين "المستنيرين" ممن ينتمون إلى الأديان السماوية الثلاثة (10)، وهو لا يشنع على النصارى شركهم وادعاء الربوبية لعيسى عليه السلام، ويحصر الخلاف معهم بأنهم لم يؤمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، يقول:
"وليس المراد بنبذهم الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته وإنما المراد أنهم طرحوا جزأ منه وهو ما يبشر بالنبي -صلى الله عليه وسلم-"
وعندما تعرض لموضوع الزواج من كتابية قال: "فهي تدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشر والفرق الجوهري العظيم بينهما هو الإيمان بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-" (11)، وقرر هذه القاعدة في كتابه (الإسلام والنصرانية) وذكر بأن الأصل السابع من أصول الإسلام الثمانية مودة المخالفين في العقيدة (12).
في التفسير:
أكثر ما تظهر (عصرانية) محمد عبده عندما يتعرض لتفسير القرآن الكريم فهو يحاول تأويل بعض الآيات تأويلاً يتناسب - بظنه - مع العلم الحديث أو مع روح العصر. ففي قوله تعالى ((ومِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ))، قال: المراد هنا النمامون المقطعون لروابط الألفة، لأنه ينكر أن يكون السحر حقيقة ملموسة (13).
عندما يقول رشيد رضا في تفسير المنار: "إن الأجسام الحية التي تسمى بالميكروبات يصح أن تكون نوعًا من الجن " وأن كل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع ملكًا". عندما يذهب بعيدًا في تفسير هذه الآيات فإنما يعبر عن رأي شيخه وموقفه من الجن والملائكة. بل إن الشيخ محمد عبده يدعو كل مفسر "لأن يتزود بشيء من اللغة العربية ودراسة السيرة، والنظر في الكون ثم يفهم القرآن حسب عصره" وهذه دعوة جريئة للخوض في كتاب الله بغير علم.
الفقه والسياسة الشرعية:
لم يتكلم محمد عبده عن الحكومة الإسلامية كما تكلم على عبد الرازق بعدئذ في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ولكن كلام الشيخ عن السلطة في الإسلام وأنها مدنية من جميع الوجوه وأنه ليس في الإسلام سلطة سوى الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير، فإن كلامه هذا كان مقدمة وتمهيدًا لما كتبه على عبد الرازق، وإن لم يكن بالوضوح نفسه، وربما يقال إنه يقصد أن الحكومة في الإسلام ليست (ثيوقراطية) أو ليس في الإسلام سلطة كسلطة البابا عند النصارى ولكنه يبقى كلامًا غامضًا مما شجع هذا الاتجاه الذي يعتبر أن الحكم والخلافة ليستا من أصول الإسلام.
أما رأي الشيخ في الجهاد فهو ينم عن ضعف شديد أمام الغربيين فهو يرى أن المسلمين إنما شهروا سيوفهم في أول الدعوة دفاعًا عن أنفسهم، أما الفتوحات التي وقعت بعدئذ فهي من (ضرورة الملك) ورأيه هذا يعنى أن الفتوحات كانت سياسة بحتة قصدها التوسع.
ومجمل آرائه الفقهية يلحظ فيها هذا الضعف، فعندما استفتي: هل يجوز منع تعدد الزوجات؟ أجاب: نعم، لأن العدل المطلق شرط واجب التحقيق وتحقيق هذا العدل مفقود حتمًا، فللحاكم والعالم منع التعدد اللهم إلا في حالة واحدة، ما إذا كانت الزوجة عقيماً.
وهذا تحكم منه في شرع الله لم يأذن به، وكذلك فتواه في حل إيداع الأموال في صندوق التوفير وأخذ الفائدة عليها، ويبلغ الشيخ قمة التقرب من الغرب والانبهار أمام حضارته عندما يتكلم عن الرسم والنحت وسائر الفنون فيقول: "فحفظ الآثار والرسوم والتماثيل هو حفظ للعلم والحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها". ويقول لتلميذه رشيد رضا: "إن الراسم قد رسم والفائدة محققة، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان" فنحن أمام رجل يريد إعمال عقله في النصوص وليس فهم النصوص ومقاصد الشريعة، ومع ذلك فالشيخ محمد عبده يختلف عن أستاذه، فقد رأى من خلال تجربته أن الاهتمام بالتعليم، وتربية الأجيال والابتعاد عن مشاكل الأفغاني ومشاغله السياسية هو الحل الصحيح، وهذا مما أغضب أستاذه فأرسل إليه يعنفه ويقول: "كن فيلسوفًا يرى العالم ألعوبة ولاتكن صبيًا هلوعًا" ولكن محمد عبده آثر وصمم على انتهاج طريق إصلاح التعليم لأنه
¥