تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

بل يرى أن الاعتماد على الأدلة النقلية والوقوف عندها طريقة الجمهور, والجمهور في اصطلاح ابن رشد هم من ليسوا بالفلاسفة الذين يسميهم (الحكماء).

فيقول - في إثبات هذه الصفات بعد أن تحدث عن صفة العلم -: إنّ صفة الحياة والإرادة والقدرة، وجودها ظاهر في صفة العلم، وذلك يظهر في الشاهد أن من شرط العلم الحياة والإرادة والقدرة، والشرط عند المتكلمين يجب أن ينتقل فيه الحكم إلى الغائب، وما قالوه صواب، وهذا التصويب يعتبر إنصافاً من ابن رشد، وعلى الرغم من كثرة مناقشته الحادة للأشاعرة والمعتزلة يعترف لهم بالفضل فيما أصابوا فيه لأن الحق ضالة المؤمن أخذها أين وجدها ولو كانت عند المتكلمين.

وبعد: فقد لاحظنا فيما سبق أن الفيلسوف بن رشد كثيراً ما يناقض نفسه، إذ رأيناه غير مرة يقف مواقف كان يعيبها على أهل الكلام، من التأويل ودعوته المعنى الجمهوري، والمعنى الخاص لبعض النصوص، ولا عجب في ذلك لأن التناقض يكاد يكون وصفاً ذاتياً للفلاسفة كلهم، إلا ما شذ أو من شذ وقليل ما هم.

فليس أبو الوليد بدعاً من الفلاسفة، هذا ما يهون الأمر علينا، وقديماً قيل: "إذا عمت هانت"

الكلام عند ابن رشد

يسلك ابن رشد في إثبات صفة الكلام، المسلك الذي سلكه في إثبات صفة الحياة والقدرة والإرادة، وهو الاستدلال بثبوت صفة العلم لأن الكلام في فلسفة ابن رشد ليس شيئاً أكثر من أن يفعل المتكلم فعلاً يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه أو الفعل الذي يصير المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه، وذلك فعل جملة الأفعال وأغرب من هذا قوله: "وقد يكون من كلام الله ما يلقيه الله إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين، وبهذه الحجة صح عند العلماء أن القرآن كلام الله".

وقد توسع ابن رشد في مفهوم الكلام إلى أن أدخل في مسمى كلام الله ما يتكلم به علماء الفلاسفة بدعوى أن الله ألقى إليهم الكلام بواسطة البراهين.

يقف أبو الوليد في هذه المسألة موقفاً شاذاً خطيراً، لم يسبق إليه - فيما نعلم - وذلك أنه خالف الأشعرية القائلة بالكلام النفسي واللفظي معاً على أن النفسي هو الكلام الحقيقي لله، واللفظي دال عليه أو ترجمة له، أو عبارة عنه، والقرآن عند الأشعرية ليس بكلام الله حقيقة، ولكنه دال على كلام الله الحقيقي الذي هو الكلام النفسي فلذا يجب احترامه إلى آخر الكلام المعروف عندهم.

وأبو الوليد لم يلتزم هذا المذهب التزاماً كلياً ولم يرفضه رفضاً باتاً، وهو في الوقت نفسه يخالف المعتزلة التي لا تثبت كلاماً نفسياً، بل تصرح بأن كلام الله مخلوق، ومعنى أن الله متكلم عندهم أنه خالق للكلام, فالقرآن مخلوق من مخلوقات الله عندهم وعند الأشعرية, ونقطة الخلاف بينهم التصريح بالقول بأنه مخلوق وعدم التصريح به، فالطائفتان متفقتان في العقيدة الداخلية - إن صح التعبير - ومختلفتان في السياسة الخارجية.

إذ ترى المعتزلة أن يصرح بذلك لدى الجمهور، لأن القضية قضية العقيدة يستوي فيها العامة والخاصة، بينما ترى الأشاعرة عدم التصريح إلا في مقام التعليم، وكأنها عقيدة تخص الخاصة دون العامة، وهو موقف يشبه موقف ابن رشد من حيث التفريق بين العامة والخاصة في بعض الواجبات والاعتقادات - كما رأينا - إلا أنه يختار لنفسه طريقة أخرى من هذه المسألة كما أشرنا، وكما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله، هذا ما عنيناه بقولنا: إن موقفه شاذ وخطير. وما أهل السنة والجماعة الذين اكتفوا بما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، الذي يتجاوزون الكتاب العزيز والسنة المطهرة فهم يعتقدون بأن الله يتكلم حقيقة كما يليق به بكيفية لا نعلمها، إذ لا نحيط به علماً {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}، {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ} , وهم لا يخوضون في كيفية تكلمه كما لم يخوضوا في كيفية جميع صفاته وكيفية ذاته تعالى، وإذا كان إيمانهم بالله إيمان تسليم لا إيمان تكييف فيجب أن يكون إيمانهم بصفاته كذلك إيمان تسليم بما في ذلك صفة الكلام، لأن الكلام في الصفات كالكلام في الذات, والكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر يحذو حذوه فلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، أو تحريف.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير