والحق أنه لم يكن لكرومر ولا لغيره أن ينجح لولا الزعماء والعلماء الذين تطوعوا بخدمته، فالحزب الوطني – أول حزب سياسي في مصر – يعلن برنامجه الرسمي سنة 1882م ونجد فيه:
"الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وأغلبيته مسلمون لأن تسعة أعشار المصريين من المسلمين، وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم بلغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية" (28).
والثورة العرابية لو قدر لها أن تنجح فربما كانت سبقت مصطفي كمال بأشياء كثيرة فها هو أحد زعمائها يقول:
"كنا نرمي منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر جمهرية مثل سويسرا، ولكنا وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة لأنهم كانوا متأخرين عن زمنهم ومع ذلك فسنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت" (29) ولهذا فما الي يمنع كرومر بعد ذلك أن يقول:
"إن الإسلام ناجح كعقيدة ودين ولكنه فاشل كنظام اجتماعي، فقد وضعت قوانينه لتناسب الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي ولكنه مع ذلك أبدي لا يسمح بالمرونة الكافية لمواجهة تطور المجتمع الإنساني" (30).
ثم أن كرومر قد حرص على أن يؤكد للمصريين "أن المسلم غير المتخلق بأخلاق أوروبية لا يصلح لحكم مصر، كما أكد أن المستقبل الوزاري سيكون للمصريين المتربين تربية أوروبية" (31) ومن هنا كانت رغبة المحتلين الشديدة في تعاون العلماء (المتنورين) معهم، وهي الرغبة التي تجلت في تشجيعهم للحركة "الإصلاحية" واحتضانها.
كان زعيم الإصلاح في مصر هو الشيخ محمد عبده الذي أثاره تقدم الغرب وتخلف المسلمين في كل ميدان فهب يدعو إلي الإصلاح متأثراً بفكر جمال الدين الأسد الشهير بالأفغاني، وكان أمل المخطط اليهودي الصليبي – كما أوضح كرومر وجب وغيرهما – أن تكون حركة الشيخ مماثلة تماما" لحركة "سير أحمد خان" مؤسس جامعة "علي قره" بالهند التي تسمت "المعتزلة الجدد" وكانوا مفتونين بحضارة الغرب منبهرين بها إلي أقصى حد.
ولكن ظروف مصر غير ظروف الهند، كما أن الشيخ وإن كان اعتزالياً متطرفاً (32) لم يستطع أن يصدم المشاعر الإسلامية بأكثر مما فعل حيث قامت ضد بعض تصرفاته ضجة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي (الفتوى الترنسفالية، فتوى إباحة صناديق التوفير .. ).
وليس ثمة شك في أن "مصر الحديثة" التي يريدها كرومر هي دولة لا دينية لا صلة بها بالإسلام وحكومتها ستكون على الشرط الذي مر آنفا"، أما محمد عبده فلم تكن لديه كما يبدو صورة واضحة، وإنما كان يهدف إلى الإصلاح الذي ينشده في ظل الاحتلال الإنجليزي. ولهذا فإن التعاون بين كرومر والشيخ يعني تقديم تنازلات من الأخير للأول، أما العدو المشترك لهما فهم العلماء "غير الأحرار" الذين كانوا – رغم ما فيهم – ينفرون من المحتل والعمل معه في أية صورة!
وابتدأ محمد عبده عمله الإصلاحي بمهاجمه الأزهر ونقد المحاكم ونقد الحياة الاجتماعية وكرومر من ورائه يقطف الثمار.
لقد كانت بريطانيا – كعادتها – عازمة على إلغاء الشريعة الإسلامية فور تمكنها في البلاد، غير أن كرومر رأي أن أفضل وسيلة لذلك هو تفريغ المحاكم الشرعية من محتواها بأن يتولاها علماء "ذوو طابع تحرري" تتم تربيتهم بإشرافه هو والشيخ في معهد خاص لقضاة الشرع، وقوى عزمه على ذل، المعلومات التي يذكر أنه حصل عليها عن الكلية التي أنشأها في سراجيفو حكومة النمسا والمجر (33) لتخريج قضاة الشرع المسلمين والتي يقول عنها أنها "كلية أثبتت نجاحها من كل الوجوه" ويتحدث عن ذلك في تقريره السنوي لحكومته عام 1905:
" ... وقد وضعت هذه المعلومات تحت تصرف لجنة ذات كفاية ممتازة يرأسها المفتي الأكبر السابق (محمد عبده) بقصد وضع خططه مشابهة تلائم ظروف مصر وحاجاتها، قد أتمت اللجنة عملها في شهر يونيه السابق ووضعت النظم المقترحة تحت تصرف الحكومة ... وهذه النظم تزود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري لا تحصر الطالب في الدراسات الدينية الخاصة" (34).
¥