قالوا: التصوف هو الزهد؛ فإن الصوفية لما رأوا إقبال الناس على الدنيا: آثروا الزهد فيها.
قيل: تفسير التصوف بالزهد، وتعريفه به، ليس له مستند، والأدلة تعارضه:
1 - في تعريفات الأئمة المؤسسين للمذهب الصوفي: لا نجد ذكرا لكلمة "الزهد"، ومعلوم أن المعرّف لمصطلح ما، جديد غير معروف: يحرص كل الحرص، على أن يستل من اللغة الكلمة الأوفق، والأوضح، فإذا كان كذلك، فلم أعرضوا عن كلمة "الزهد"، واستعاضوا عنه بعبارات من قبيل: إيثار الله .. قلة الطعام .. الفقر .. ؟! .. هل غابت الكلمة عن قاموسهم؟!، كلا، بل حاضرة، لكن لما لم يكن حقيقة التصوف هو الزهد: أعرضوا عنه.
2 - ورد التصريح من الأئمة بأن التصوف ليس هو الزهد، قال السهروردي: "التصوف غير الفقر، والزهد غير الفقر، والتصوف غير الزهد، فالتصوف: اسم جامع لمعاني الفقر، ومعاني الزهد، مع مزيد أوصاف وإضافات، لا يكون بدونها الرجل صوفيا، وإن كان زاهدا فقيرا". [عوارف المعارف، ملحق بالإحياء 5/ 79]، فالتصوف لا يختص بالزهد، ولا الزهد هو التصوف، وهكذا قال: ابن الجوزي، نيكلسون، عبد الحليم محمود، سعاد الحكيم، محمد زكي إبراهيم.
فإذا لم يكن هو الزهد، فما هو إذن؟ .. الجواب سيأتي فيما يلي:
الدليل الثالث: التصوف خلق وسلوك.
قالوا: التصوف أخلاق وسلوك، لتهذيب النفس، وتصفية الروح، والتخلص من الأخلاق السيئة.
قيل: نعم هو خلق وتخلق، لكن أي خلق، وأي تخلق .. ؟!.
هو خلق وتخلص خاص، كما فسره أئمة التصوف: النوري، والغزالي، وابن عربي، والجيلي، والقاشاني: "التخلق بأخلاق الله"، ليس هو التخلق المتبادر إلى الذهن، بل مشاكلة للصفات الإلهية .. وهل يمكن هذا.؟!.
قالوا: كلا، بل تخلق في حدود البشرية.
قيل: هذه دعوى، فكتب الصوفية طافحة، مليئة بإثبات أنه تخلق كامل، لا نقص فيه، حتى يضاهي الصفات الإلهية، سواء بسواء؛ ولذا قالوا: الفناء عن الصفات البشرية، والبقاء بالصفات الإلهية. أو الفناء عن البشرية، والبقاء بالإلهية. فالفناء هو لب الفكرة الصوفية، شهد بذلك الأئمة الأولون، ثم المصنفون منهم: الطوسي، والهجويري، وأبو المواهب الشاذلي .. ومن المعاصرين الدكتور أبو الوفا التفتازاني شيخ مشايخ الطرق الصوفية، والشيخ محمد زكي إبراهيم، شيخ العشيرة المحمدية .. فهل في الصحابة من يقول بالفناء؟!.
وهل الفناء عن الأوصاف البشرية، أو البشرية: توحيد. أم توحّد مع الأوصاف الإلهية، والذات الإلهية، حتى تتحدا، فتكون شيئا واحدا .. ؟!.
فهذه الحقيقة من البروز والظهور بحيث يعسر سترها، كما قال المستشرق الباحث في التصوف نيكلسون: "وتحول معنى التوحيد إلى وحدة الوجود، فحلت محل صورة الله الواحد، المنزه عن صفات المحدثات، صورةُ الوجود الواحد المطلق (الحق)، الظاهر في كل مظهر من مظاهر الخلق، المتجلي في صورة الصوفي عند فنائه عن نفسه في حال وجده، وهذه العقيدة مهما حاول الصوفية سترها: أساس التصوف وجوهره". [في التصوف الإسلامي وتاريخه ص73]، والعبارات في هذا المعنى، المثبتة لهذه الحقيقة أكثر من أن تحصى، سواء عن الأئمة أنفسهم: أولين، وآخرين. أو عن الكتاب المتخصصين في التصوف.
الدليل الرابع: أئمة التصوف فيهم من له قدم صدق في الإسلام.
قالوا: أين أنتم من الأئمة، المتقيدين بالكتاب والسنة، والذين أثنى عليهم الأئمة كابن تيمية، أليس الثناء عليهم ثناء على التصوف؟.
قيل: هذا هو موضع البحث والنظر ..
فإن أكثر النزاع من هذه الحيثية؛ فإن الذين صححوا التصوف بنوا قولهم نظرا منهم إلى المنتسبين إلى التصوف، وما جاء من الثناء عليهم، خصوصا عن ابن تيمية. لكنهم لم ينظروا من جهة الفكرة نفسها، وهذا خطأ .. ومثله كمن صحح النصرانية؛ لأن فيهم قسيسين ورهبانا، وأنهم لا يستكبرون .. !!.
والصواب: أن يفرق بين الفكرة والمنتسبين إليها. فليست كل أفعال المتصوفة صادرة عن الفكرة الصوفية، بل فيها ما هو صادر عن اتباع وتسنن، فهذا ينسب إلى الإسلام. وفيها ما هو صادر عن فكرة صوفية، معروفة من قديم، في الثقافات القديمة، فهذا ينسب إلى الصوفية ..
أما نسبة كل ما يصدر عن الأئمة إلى التصوف، فمثل نسبة كل ما يصدر عن المسلمين إلى الإسلام .. !!.
* * *
فهذا ما سمح به المقام لمناقشة هذه الفكرة ..
فهل يصح بعد هذا العرض أن يقال: إن التصوف الصحيح هو عين التوحيد؟.
¥