وليكن معلوما أن ابتداء أمر الأشاعرة أنهم توسلوا إلى أهل السنة أن يكفوا عن هجرهم وتبديعهم وتضليلهم وقالوا: نحن معكم ندافع عن الدين وننازل الملحدين (23)، فاغتر بهذا بعض علماء أهل السنة وسكتوا عنهم فتمكن الأشاعرة في الأمة ثم في النهاية استطاعوا على أولئك واستأثروا بهذا الاسم دون أهله، وأصبحوا هم يضللوا أهل السنة ويضطهدونهم ويلقبونهم بأشنع الألقاب. فحتى لا تتكرر هذه المشكلة وإحقاقا للحق رأيت من واجبي أن اسهم بتفصيل مذهب الأشاعرة في كل أبواب العقيدة ليتضح أنهم على منهج فكري مستقل في كل الأبواب والأصول، ويختلفون مع أهل السنة والجماعة من أول مصدر التلقي حتى آخر السمعيات ما عدا قضية واحدة فقط.
وإليك هذه الأصول المنهجية في مذهبهم. موجزة وميسرة ما أمكن -عدا أقوالهم في الصفات وعدا الفرعيات التي لا تدخل تحت حصر -مع التنبيه مقدما إلى ما بينها متناقض لا يخفى على القارئ الفطن:
الأول: مصدر التلقي:
(أ) مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل وقد صرح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوي وسراج الجوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض، وعلى هذا يرى المعاصرون منهم، ومن هؤلاء السابقين من صرح بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة اصل من أصول الكفر وبعضهم خففها فقال هو اصل الضلالة!!.
ولضرورة الاختصار أكتفي بمثالين مع الإحالة إلى ما في الحاشية لمن أراد المزيد:
الأول: وضع الرازي في أساس التقديس القانون الكلي للمذهب في ذلك فقال: "الفصل الثاني والثلاثون في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية فكيف الحال فيها؟
أعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء ثم وجدنا أدلة نقلية يشعر ظاهرها بخلاف ذلك فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة:
(1) إما أن يصدق مقتضى العقل والنقل فيلزم تصديق النقيضين وهو محال.
(2) وإما أن يبطل فيلزم تكذيب النقيضين وهو محال.
(3) وإما أن يصدق الظواهر النقلية ويكذب الظواهر العقلية وذلك باطل.
لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على محمد صلى الله عليه وسلم.
ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية القطعية صار العقل متهما غير مقبول القول. ولو كان كذلك لخرج أن يكون مقبول القول في هذه الأصول وإذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة.
فثبت أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معا وأنه باطل.
ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية - القاطعة بان هذه الدلائل النقلية إما أن يقال أنها غير صحيحة (24). أو يقال إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها.
ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع (25) بذكر تلك التأويلات على التفصيل. وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات وبالله التوفيق" أهـ.
الثاني: يقول السنوسي (ت 885) في شرح الكبرى:
"وأما من زعم أن الطريق بدا إلى معرفة الحق الكتاب والسنة ويحرم ما سواهما فالرج عليه أن حجتيهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي، وأيضاً فقد وقعت فيها ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع".
ويقول: "أصول الكفر ستة .. " ذكر خمسة ثم قال:
"سادسا: التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشعرية".
(ب) صرح متكلموهم ومنهم من سبق في فقرة "أ" أن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة ولا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشر عوارض منها: الأضمار والتخصيص والنقل والاشتراك والمجاز .. الخ. وسلمت بعد هذا من المعارض العقلي بل قالوا: من احتمال المعارض العقائد!! .
¥