تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يرجع محمد عبده سبب ذلك إلى الموقع الزمني الذي تنزل فيه الوحي القرآني، مقارنة بالتوراة والإنجيل، حيث تؤشر اللحظة التاريخية التي نزل فيها القرآن على تطور البشرية ورقيها العقلي الأمر الذي استوجب حدوث تطور في منهج عرض العقيدة بما يتناسب مع التحولات التي لحقت مدارك البشرية ومستواها الفكري. فالتوراة في منهجها تؤكد ضمنيا أن البشرية في تفكيرها وقتئذ كانت لا تزال حسية في فهمها ورغباتها، ومع تطورها وارتقائها وتحولاتها القيمية والأخلاقية، جاء الإنجيل بنقلة في مستوى منهج الخطاب من خطاب حسي إلى خطاب روحي شفاف، ومع الارتقاء والتطور جاء القرآن ليرقى بالبشرية في الخطاب إلى أرقى مقام، فخاطب عقلها.

وبعد تقرير الحقيقة السابقة يتناول الأستاذ الإمام مسائل عقدية عديدة، لكن يمكن اختزالها في محاور ثلاثة كبرى هي:محور الألوهية، ومحور النبوة والرسالة والقرآن، ومحور الإنسان.

ففي محور الألوهية يبدأ الإمام محمد عبده بتشغيل موقفه المنهجي القاضي بوجوب اعتماد الدليلين العقلي والنقلي، لكن مع تعيين حقل اشتغالهما. حيث يرى أن مسألة الذات الإلهية وصفاتها فيها صنفان من الموضوعات:

موضوعات يمكن الاستدلال عليها بالعقل.

وموضوعات يجب الاستدلال عليها بالنقل.

فبالنسبة لوجود الله وصفاته التي تترتب عقلا على وجوده - وهي حسب الشيخ محمد عبده “القدم والبقاء والوحدانية والعلم والإرادة والحياة” - هي قضايا بإمكان العقل أن يستدل عليها، بمعنى أن إمكاناته المعرفية قادرة على إثباتها. غير أن الموضوعات الثانية، أي ما يسميه ب “الصفات السمعية” فلا سبيل فيها إلا سبيل السمع أي الوحي. حيث يقول: “ومن الصفات ما جاء ذكره على لسان الشرع ولا يحيله العقل إذا ما حمل على ما يليق بواجب الوجود، ولكن لا يهتدى إليه بالنظر وحده، ويجب الاعتقاد بأنه جل شأنه متصف بها اتباعا لما قرره الشرع وتصديقا لما أخبر به. فمن تلك الصفات صفة الكلام” (2)

المستحيل والممكن

ولنرجع إلى الدليل العقلي الذي استخدمه بالنسبة للصنف الأول، فمن الملاحظ أننا نلقى الدليل نفسه الذي اعتمده بعض المعتزلة والأشاعرة من بعدهم، وعرضه الشهرستاني ثم نقله عنهم الشيخ محمد بن الحسن الطبرسي في كتابه “الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد”، كما نجده مبسوطا باستفاضة مع بعض الاختلاف-عند ابن سينا في كتابه “الاشارات”، وهو الدليل الذي يقسم المعلوم إلى ما يستحيل وجوده وما يمكن وجوده وما يجب وجوده لذاته. فإذا كان كل ما في الكون ممكن الوجود، فلابد من احتياج هذا الممكن إلى سبب يخرجه إلى حال الوجود بالفعل. وإثبات وجود ممكن الوجود يستلزم عقلا وجود واجب الوجود (الله)، الذي هو سبب وجود الممكنات. ولابد للعقل عندما يصل إلى هذه الحقيقة اللازمة من أن يقرر أيضا لواجب الوجود كل الصفات الكاملة، مثل “الحياة والإرادة والعلم والقدم والبقاء ونفي التركيب والغنى المطلق”.

وإذا كانت الصفات السابقة في إمكان العقل أن يبث فيها ويشتغل بإمكاناته المعرفية لتقريرها، فإن ثمة صفات أخرى هي “صفات سمعية” لا مصدر لنا فيها سوى الوحي. فالشيخ الإمام يذهب من الناحية المنهجية مذهبا أشبه ما يكون بمذهب إيمانويل كانط في نقد قدرات العقل، حيث يقرر أن العقل البشري من حيث طبيعته عاجز عن اكتناه حقيقة الأشياء في ذاتها.

لكن كانط يصل كما هو معلوم إلى نفي إمكان البحث في المجال الميتافزيقي كلية، بينما يذهب الشيخ محمد عبده إلى تقرير إمكان إثبات وجود الله، وتقرير بعض صفاته. ثم يؤكد من بعد أن العقل عاجز عن اكتناه حقيقة تلك الصفات، وإن انشغال العقل ببحث ماهيتها هو تضييع للعقل واستعمال له في غير ما خلق له. ودليل ذلك يقول الشيخ عبده إن العقل عاجز عن اكتناه حقيقة موضوعات كونية مثل الضوء والكهرباء، لكنه رغم ذلك يستفيد منها بناء على إدراكه لآثارها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير