تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولا يكفي للحكم على بطلان هذا اللفظ الشائع حتى بين خاصة المثقفين الإسلاميين ودعاتهم أن نقول: إنه باطل غريب، فالحكم بإطلاق الألفاظ والأحكام من غير دليل على ما فيها من صواب أو من خطإٍ هو شيءٌ يدخل في باب التساهل، بل في باب النكر، ولا يتجاوز ما أشرنا إليه من غربة وزغل، وهذا -على الأقل- محظور على من يتصدى لبيان وجه الحق في أي أمر من الأمور.

• ثالثاً:

وإذ الأمر كذلك، وإنه لا يكفي في الحكم على هذا اللفظ بالغربة والبطلان، بإطلاق ذلك عليه، فلا بُدَّ إذاً من إقامة الحجة، وتقديم الدليل على بطلان هذا المصطلح وغربته، وعلى فساده وعدم صحته. فكلمة (رأي) مصدر لرأى يرى، يقال: رآه يراه رأياً، أي: أبصره بحاسَّة البصر، واعتقده، ودبَّره، فتكون كلمة (رَأْي) مصدراً لـ (رأَى البصرية) و (رأَى العلمية) كما يقول اللغويون والنُّحاة، ولسنا هنا بصدد الحديث عن رأى البصرية ومصدرها، بل حديثنا يدور حول رَأى العلمية ومصدرها.

فحين يعمل الإنسانُ رأيه في أمر للوقوف عليه صحةً أو بطلاناً، قوةً أو ضعفاً، صواباً أو خطأً، يعمله وهو يعلم علم اليقين أن وقوفه على أحد وصفي الأمر الذي يُعمل رأيه فيه، يتردد بين الوصفين اللذين يوصف بهما الأمر نفسه، من صحة أو بطلان، وقوة أو ضعف، وصواب أو خطإٍ، لأن وقوفه عليه -وهو الحكم الذي ينتهي إليه على هذا الشيءِ - ناشئٌ من تقديره العقلي، والعقل خَلْق الله سبحانه، ولا يبلغ حدَّ الكمال بنفسه، ولا يرتكس إلى النقص بنفسه، فنقصه وتمامه، أمران نسبيان ينشأ بهما الحكم على الأشياء.

والرأي هو نوع من التدبير، بل هو التدبير عينه، وإعمال النظر، وإجالة التفكير في الأمور، والحكم الذي ينشأُ من ذلك، لا يكون مقطوعاً به يقيناً، بل يكون مظنوناً، والظن -راجحاً كان أم مرجوحاً- لا يخرج عن دائِرة الظن، وإن كان صاحبه قد وصل إليه بإعمال، وتدبير، وتفكير، وتسميته حكماً من باب التجوُّز ليس إلاَّ، وهو بهذا لا يكون إلا ظنّاً، والرأي، والظنُّ، والحكم في هذا، كلُّها مترادفات لشيء واحد.

وإذ ذلك كذلك فإنَّ كلمة (رأي) لا تصلح أن تُطلق، ويراد بها أمر قضى به الله سبحانه في كتابه أو في سنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لأنهما -الكتاب والسُّنَّة - هما قوام دين الله، الذي قال فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ} و {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً}.

وكل أمر قضى به الله في الكتاب والسُّنَّة يقالُ فيه: هو من دين الله، ودين الله يخاطب به الله سبحانه خلقه جميعاً على لسان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وقد عرَّف العلماء الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، إما بالطلب، وإما بالكف، وإما بالتخيير، والله سبحانه لا يخاطب عباده بحكم مبني على التدبير، والتفكير، وإعمال النظر، بل يخاطبهم بحكمٍ ناشئٍ من علمه بما يصلح لعباده، وإرادته الصلاحَ لعباده، فيقضي به بكلمة كن، فيكون حكماً لله سبحانه، ليس الرأي شيئاً قريباً منه، وليس هو قريباً من الرأي، بل بينهما من البعد والفرق ما بين الرأي والحكم.

وتشريع الله أحكامه، وخطابه عباده بها يكون، بلفظ: (قضى) أو (حَكَم)، أو (أمر)، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، وكقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}، وكقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.

وهذه الألفاظ بمعانيها اللغوية لا تحتمل إلا وجهاً واحداً فقط، وهو إمضاءُ ما تحمل من حكمٍ وإنفاذُه، على مُراد الله سبحانه، ومرادُ الله في خطابه، لا ينكشفُ لعباده إلا بظهوره بأمره أو بقضائِه أو بحكمه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير