وأمر الله سبحانه عباده بأحكامه إما أن يكون بصريح لفظ (أمر) أو ما اشتق منه، وإما بألفاظ أخرى بصيغة طلب الأمر، كقوله تعالى: {حَافِظُواْ}، وكقوله: {فَاتَّبِعْهَا}، وكقوله: {قُلِ}. وإما بصيغة طلب النهي، كقوله تعالى: {لاَ تَكُونُواْ}، وكقوله: {لاَ تَقْرَبُواْ}، وكقوله: {لاَ تَشْتَرُواْ}.
وكلا الصيغتين: الأمر والنهي لهما صيغٌ أخرى، تفيد ما يفيده صريح الأمر والنهي، من طلب للشيءِ، أو طلب للكفِّ عنه، كقوله تعالى في الأمر: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}.
مما تقدَّم يستبين لنا أن الرأْي ليس له موردٌ قطعاً في أوامر الله ونواهيه، وأن ما قضى به الله سبحانه، أو حكم به، أو أمر، ونزل به الوحي على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنما كان قضاءً أو حكماً أو أمراً عَلِم الله سبحانه به مصلحةً لعباده، فخاطبهم به خطاب العليم الحكيم الذي أحاط بكل شيء علماً منذ أن كان.
وقد يقول قائل: إنَّ الله سبحانه قد نسخ بعض الأحكام وشرع غيرها بدلاً منها، وأثبت ذلك في محكم تنزيله فقال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، وقال أيضاً: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} أفليس هذا يشبه أن يكون رأياً؟!
فأقول: هذا قول في دين الله سبحانه بغير علم، وليس يدَّعيه إلا من لم يؤْت أدنى حظٍّ من الفقه في الدين، أو كان مجانباً للحق، باغياً عليه، عادياً حدوده، إذ النسخ شيءٌ، والرأي شيءٌ، فالنسخ زوال حكم قضى به الله وأمر به عباده في زمان ما، بحكمٍ آخر، اقتضت حكمته - وهو أعلم بما يصلح لعباده- أن يكون خطابه لهم على هذا النحو، يُدْرَكُ ذلك بعد ظهور الحكم واستجابة العباد له، وإذعانهم له بالعمل به، فيعلمون أن خطابهم بالحكم، أو بالحكمين الناسخ والمنسوخ في زمانين متعاقبين، إنما كان من رحمة الله سبحانه بهم.
ثم إن من يقول بأن النسخ يشبهُ أن يكون رأياً، قد أوغل بعقله القاصر مَوْغِل بعض الفرق الشاردة عن مورد الهدى، تلك التي تقول وتعتقد بعقيدة «البَداء»، وهي عقيدة تكاد أن تكون اتهاماً صريحاً لله في علمه حاشاه، إذ معنى البَداءِ: «علم شيءٍ لم يكن الله يعلمه من قبل، فبدا له وظهر من حسن شيءٍ أو قبحه ما كان خافياً مستوراً»، وأيُّ ضلال أكبر من مثل هذا الاعتقاد المفترى على الله جلَّ جلاله، وهو الذي أحاط بكل شيءٍ منذ أن كان، وهو وحده أعلم كيف كان، وإلى أن تقوم الساعة.
فأيُّ فرق حينئذٍ بين من يرى أن النسخ يشبه أن يكون رأياً، وبين من يقول ويعتقد بعقيدة البداء؟! فهما شيءٌ واحد، واسم واحد، لمسمَّى واحد، وإن اختلفت صورتهما، وتباينت حروفهما.
والوحيان (الكتاب والسُّنَّة) شيءٌ واحد، مصدرهما الله سبحانه، نزل بهما جبريل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وقد قطع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الطريق على أُولئِك الذين أرادوا أن يفرقوا بين الوحيين، فقال: «يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدَّث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجلَّ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرَّمناه، ألا وإن ما حرَّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل ما حرَّم الله»، وقال فيهما أيضاً: «ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض».
ولست هنا بصدد بيان مرتبة السُّنَّة من القرآن، والقرآن من السُّنَّة، فهذا يطول جداً، وقد أفردته في بحث خاص، أتيت فيه على مسائل نافعة إن شاء الله تعالى، يسَّر الله نشره، ولكنني بصدد بيان أنه لا يجوز إطلاق (الرأي) على السُّنَّة النبوية، كما لا يجوز إطلاقها على القرآن، فكلاهما وحيٌ من الله سبحانه، يدبِّر بهما أمر خلائِقه، الذين ذرأهم في الأرض ليعمروها.
¥