تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومما يؤكد هذا أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - -مناط الوحي، ومعدنه المتلقيه، وحافظه ومُبْلغُهُ- قد علَّم الأُمة أن الرأي منه لا يكون وحياً، وأن الوحي لا يكون إلا وحياً، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمحض بشريته لا يكون إلا بشراً فقال عليه السلام: «إذا أمرتكم بشيءٍ من رأيي فإنما أنا بشر»، فما يصدر عنه من رأي محض يظل رأياً، ربما كان رأي غيره مقدماً عليه، كما كان ذلك في تأبير النخل، وردِّه الأمر إليهم، وأنهم أعلم بأمور دنياهم، وما ذلك منه صلوات الله عليه وسلامه إلا إقراراً ببشريته، وإن فاق بشرية الناس بها، لكنه يظلُّ بشراً، يكون منه ما يكون من سائِر البشر، يدع لهم ما يحسبون أنهم على علم به لتجربة أو خبرة، فيقول لهم يوماً في سفر، وقد ظنوا أنهم فرَّطوا في صلاتهم: «ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم وإن كان أمر دينكم فإليَّ» إنه حقّاً لرسول بشر عظيم!!

وقد فَقه الصحابةُ رضوان الله عليهم هذا عن نبيهم عليه الصلاة والسلام، فما عدوه، ولا جاوزوه، بل وقفوا عنده، ولزموه، وكانوا به متبعين، آخذين به أنفسهم، فلم يقدِّموا الرأي، ولم يُقدموا على جعله سبيلاً إلى دين الله، إلا كان أحدهم يعجز عن إقامة الدليل على المسألة التي يفتي بها غيْره، متهماً نفسه أولاً، فهذا عمر رضي الله عنه، يخطب الناس يوماً فيقول: «يا أيها الناس، إنَّ الرأي إنما كان من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مصيباً؛ لأن الله كان يُريَه، وإنما هو منا الظنُّ والتكلف».

بمثل هذا النظر الدقيق المنبِئ عن تقوى في صدورهم كانوا يعرفون الفرق الكبير بين الوحي وبين الرأي، قبل أن يتقرر الوحي فيُمضى، لأنه وحي، أو يوقَفُ عنده، فلا يُمْضَى لأنه ليس بوحي.

وقد ظل الرأي مدرجة الظن والاتهام والخطإ عند الصحابة، ومن بعدهم، ممن أخذ عنهم أو أخذ ممن أخذ عنهم، لا يجدون فيه بَلالاً لعقولهم، التي ما كانت تجد ريّاً لظمئِها إلا في نصوص الوحي فحسب، حتى وفدت على دار الإسلام وأهله عقول، لم تكن بقادرة أن تُسيغ بعجمتها الفكرية سلامة الوحي، وصفاء آياته وكلماته، فأبعدت النجعة بآرائِها، وسارت بالأمة بعيداً عن صفاء الوحي وسلامته، وأخذت تزرع آراءَها العقلية، بين أظهر المسلمين، وكادت أن تجعل منها ديناً يعدل الوحي، ولكن أنى؟ وكيف؟ والوحي محفوظ بحفظ الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!!

ولست بمُغْفِلٍٍ القولَ: إن الاجتهاد الذي حرَّك نصوص الوحي في عقول العلماء، وأدخلها عقول الملايين من طلاب العلم في شتى الأعصار والأمصار، وماج بها موجاً في عرصات المدارس والمساجد، وبنى صروحاً شامخة ضخمة في كل ديار الدنيا، انطلقت من فوقها نظريات وقواعد علمية جرت في الآفاق مجرى الليل والنهار، وفي الأنفس والعقول مجرى الهواء والدَّم، وبهرت أنظار العلماء من كل أُمم الأرض قاطبة، وحملتهم على حروفها ودلالاتها كما تحمل الطيور على الأغصان المونقة الخضراء.

أقول: إن هذا الاجتهاد كان، ولا زال، وسيظل أبرز سمات الإسلام نفسه وأعظمها، بل هو السمة الظاهرة الكبرى، التي تميزه من بين سائر الأديان والمذاهب، التي حملها الأنبياء والمصلحون البشر إلى شعوبهم وأُممهم.

ولكن الاجتهاد لا يعني سوى تقليب النظر، وإعمال التفكير في النصوص، أو في النص الواحد لاستنباط حكم لا يفيده النص صراحة، بحيث يقال فيه: لا اجتهاد مع النصِ، فيكون الاجتهاد على هذا النحو الذي ذكرنا رأياً للمجتهد، يُصيبُ فيه أو يخطئُ، وله بصوابه فيه أجران، ويخطئِه فيه أجر واحد، غيْر أنَّه لا يُقال لاجتهاد أيِّ مجتهد، مهما كانت قدمه راسخة في الاجتهاد: هذا رأيُ الدين، أو رأي الإسلام، بل يُمكن أن يقال: هذا رأيُ المجتهد فلان في هذه المسألة، مع القطع بأن اجتهاده لا يعني أنه هو الذي أصاب به الحق المراد لله سبحانه، وأن اجتهاد غيره هو الخطأ، الذي لم يصب الحق المراد لله سبحانه، إذ الاجتهاد كما تقدم هو إعمال التفكير وتقليب النظر في النص الواحد، أو في النصوص، وهذا يكون منه الخطأُ كما يكون منه الصواب، وإلا لكان المجتهدون كلهم مخطئين أو مصيبين، وهذا ليس من العقل في شيءٍ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير