تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومع أنَّ الجلَّة من أهل العلم في كل عصر لم يجاوزوا باجتهادهم هذا الفهم، فإنهم جميعاً أو عامتهم كانوا يرون في الرأي شيئاً من الإثم، أو يكاد، يفرون منه إلى البحث عن النص الصريح في الدِّلالة أو غير الصريح، يأخذون منه الحكم في المسألة التي تعرض، فإذا عجزوا فاؤوا إلى الرأي الاجتهادي في حرج بالغ، وقد توافرت النصوص عنهم، التي تفيد رغبتهم الأكيدة عن الرأي وذمِّه، إلى النص وحده ومدحه، مع إيصائِهم الناس أن يكونوا من الرأْي على حذر، وأن يطَّرحوا الرأيَ بعيداً حين يجدون الدليل من كتاب الله، وسُنَّة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، يقول إمام دار الهجرة مالك بن أنس: «إنما أنا بشر أُخطئُ وأُصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسُّنَّة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسُّنَّة فاتركوه». وقد اتفقوا جميعاً على هذه الكلمة، على اختلاف في ألفاظها وحروفها. فقالها الإمام الشافعي، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وغيرهم، وكل واحد كان يقولها وهو يعلم أنّ علماً كثيراً من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يصله، وإن كان قد بذل جهداً في تحصيله وتعليمه الناس، ولم يدَّخر وُسْعاً أن يصيب منه قدراً ينيله تقوى الله، ويقفه تابعاً خلف نبيه صلوات الله وسلامه عليه.

وبدهي أن الرأي المذموم عند هذه الجلَّة الباهرة، ليس الرأي الذي يتعارض مع النص في صراحته أو دلالته القريبة أو البعيدة، فهذا شيءٌ كان عندهم أدنى إلى الكفر منه إلى الإيمان، لكنه الرأي الذي لا يجد باذله عنه مندوحة لتقرير مسألة، أو إظهار حكم الله في أمر يؤديه إليه اجتهاده، الذي يتقرب به إلى الله عبادة.

هذا الرأي كانوا يفرون منه، ويود أحدهم لو يلقى الله سبحانه وهو لم يفت مستفتٍ في مسألة واحدة، لكنه إذا لم يجد إلا أن يفتي فهو يقدم على الفتيا، وقد علت وجهه الرُّحضاء، وارتجف قلبه من خوف ما هو مقدم عليه، كأنما نار تتلظى يراها بناظريه، يكاد أنْ يكب فيها على وجهه، لأنه إنما يفتي موقعاً بفتياه عن الله عز وجل، فأي أرض تقله، وأي سماءٍ تظله، وأي مدخلٍ يأوي إليه، إن هو قال على الله مالم يرد، أو قال على نبيه عليه السلام ما لم يأذن به؟؟!!

من هنا ظلَّ الرأْي متهماً عندهم، لا يفصح عنه أحدهم إلا محذراً غيره، خائِفاً منه على نفسه، وهذا ابن سيرين رحمه الله، كان إذا سئِل عن شيءٍ قال: «ليس عندي فيه إلا رأي أتهمه، فيقال له: قل فيه على ذلك برأيك، فيقول: لو أعلم أنَّ رأيي يثبت لقلت فيه، ولكني أخاف أن أرى اليوم رأياً، وأرى غداً غيره، فأحتاج أن أتبع الناس في دورهم».

وكذلك قال سالم بن عبدالله بن عمر لرجل سأله عن شيءٍ: «لم أسمع في هذا بشيءٍ، فقال له الرجل: إني أرضى برأيك، فقال له سالم: أُخبرك برأي ثم تذهب، فأرى بعدك رأياً آخر غيره فلا أجدك».

ومن قبل هؤلاء قال الصحابة مثل قولهم، فكان قول المتأخرين موافقاً قول المتقدمين مطابقاً له، حتى لكأنهم ينطقون بلسان واحد، ويصدرون عن نظر واحد، ولا يخالف أحدهم الآخر إلا في اللفظ وحدهُ، وهذه منَّة امتن الله بها على هؤلاء النفر، الذين أُوتوا العلم بإخلاصهم، وصدق توجههم إلى ربهم، من ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا سئل عن شيءٍ لم يبلغه فيه شيءٌ قال: إن شئْتم أخبرتكم بالظن.

وكان الرأي عند أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غير مساغ قط حتى ولو كان صواباً، فلا يجد أحدهم بدّاً من نصح إخوانه أن يتهموا الرأي في الدين، وإذ الرأْي متهم فصاحبه مقدَّم في الاتهام. فهذا سهل بن حنيف رضي الله عنه يقول: «يا أيها الناس، اتهموا رأيكم عن دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردَّ أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لرددته، وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظِعنا إلا أسهَلْنَ بنا إلى أمرٍ نعرفه».

وكان هذا منهم ليس من عند أنفسهم، بل هو أخذ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الذي قال لهم فيما يروي لنا عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: «إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جهَّال يستفتون، فيفتون برأيهم، فيُضلُّون ويَضِلُّون».

ولقد صدق أبو السمح حين قال: «إنه سيأتي على الناس زمان يُسْمِن الرجل راحلته، ثم يسير عليها حتى تهزل، يلتمس من يفتيه بسنَّة، فلا يجد إلا من يفتيه بالظن».

ولقد نبتت نابتة سوء في زماننا حين ألوى المشايخ أعنَّة عقولهم عن الإصغاء للحق وسماعه من نفر آتاهم الله حظّاً من فهم الكتاب والسُّنَّة، وأخذوا يعرضون على الناس هذا الفهم بأسلوب يجمع بين لغة الماضي ودقتها، وبين لغة الحاضر وسهولتها، فأصغت قلوب الكثيرين وعقولهم إليهم، فأوجد عليهم المشايخ، وأخذوا يريشون السهام ويشدون أوتار الأقواس، ويرمونهم من مكان خفي، لا يجرؤون على المواجهة الصريحة الشريفة، لعلمهم أنهم عاجزون أمام أُولئِك النفر، فأتوا من جهل وحسد في آن معاً، وشر الداء وأدوؤه ما يكون من جهل وحسد.

وأخيراً فإنني لا أحسب أحداً يجرؤُ أن يقول: رأي الله كذا، وأي فرق ظاهر بين قولنا مثلاً: رأي الله كذا، ورأي الدين أو الإسلام كذا، فإن الدين هو الوحي المنزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ}. انتهى بنصه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير