عليهم اسم (صوفية) حتى حل القرن الثاني، ومر نصفه، ثم بدأ هذا الاسم بالظهور، كما ثبت بالبحث التاريخي، فهذا مما يضعف هذه النسبة.
- فلم تبق نسبة صحيحة منها، من حيث اللغة، سوى النسبة إلى الصوف.
فهذه مقبولة لغة، أما من حيث المعنى فقد رُدّت كذلك بأقوال أقطاب التصوف، كالقشيري والهجويري، وإن كانت مقبولة عند غيرهما كالطوسي والسهروردي.
والنتيجة التي نخرج بها من هذا العرض: أن الصوفية لم يتفقوا على نسبة معينة، فإذا اطرحنا ما ثبت بطلانه لغة، وهو الواجب، لأنه لا وجه لإثبات نسبة خاطئة لغة إلا سفسطة، بقيت النسبة الصحيحة لغة: (الصوف). وهذه أيضا لم تسلم من النقد والرد، وكان علة ذلك، كما ذكر القشيري: أن القوم لم يختصوا ولم يشتهروا به. قال: "القوم لم يختصوا بلبس الصوف" [22].
وهذه شهادة خطيرة، فيها نقض لقول من ادعى أن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف، شهد بها إمام عارف من أئمة الصوفية المتقدمين، العارفين بأحوال بدايات التصوف، حيث عاش في القرنين الرابع والخامس (377 - 465)، فهو من الجيل الثالث أو الرابع، والتصوف إنما نشأ في هذه الأجيال الممتدة ما بين القرن الثالث إلى الخامس، وكل ما لم يكن في هذه الفترة فليس من التصوف قطعا؛ لأن أهلها هم أئمة المذهب، وواضعوا أسسه، لا يختلف على هذا أحد.
ومما يعطي الشهادة قيمة أكبر، أنا لم نسمع بإمام صوفي انبرى للرد عليه وإبطال زعمه هذا، فسكوتهم دليل موافقتهم له، ويبعد أن يكونوا غير مطلعين على كتابه، بل يستحيل، فكتابه (الرسالة) من أشهر كتب التصوف، فمن الذي لا يعرفه من الصوفية؟!.
بل سايره على هذا الرأي، ووافقه: إمام آخر معاصر له هو الهجويري، حيث قال: "واشتقاق هذا الاسم لا يصلح على مقتضى اللغة، من أي معنى، لأن هذا الاسم أعظم من أن يكون له جنس يشتق منه، وهم يشتقون الشيء من شيء مجانس له، وكل ما هو كائن ضد الصفاء، ولا يشتق الشيء من ضده، وهذا المعنى أظهر من الشمس عند أهله، ولا يحتاج إلى العبارة " [23].
- القول الراجح في نسبة الصوفية.
بقيت نسبة أخيرة لم يذكرها أحد من المتصوفة .. !! ..
فقد رجع بعض الباحثين والمؤرخين، المختصين بعلوم الديانات القديمة: الهندية والفلسفية. من غير المتصوفة، بالكلمة إلى أصل يوناني، هو كلمة: (سوفيا)، ومعناها: الحكمة.
وأول من عرف بهذا الرأي: البيروني في كتابه: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، وتبعه عليه جمع، خصوصا الباحثين المعاصرين، وفيما يلي أقوال الذين يقررون أجنبية المصطلح والفكرة عن البيئة الإسلامية:
1 - يقول أبو الريحان البيروني مبينا أصول التصوف في الفكر الفلسفي الهندي: "ومنهم من كان يرى الوجود الحقيقي للعلة الأولى فقط، لاستغنائها بذاتها فيه، وحاجة غيرها إليها، وأن ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره فوجوده كالخيال غير حق، والحق هو الواحد الأول فقط.
- وهذا رأي (السوفية) وهم الحكماء، فإن (سوف) باليونانية الحكمة، وبها سمي الفيلسوف (بيلاسوبا)، أي محب الحكمة.
- ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم، سموا باسمهم، ولم يعرف اللقب بعضهم فنسبهم للتوكل إلى (الصفة)، وأنهم أصحابها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صُحّف بعد ذلك، فصُيّر من صوف التيوس" [1].
2 - وبهذا قال كل من: المستشرق الألماني فون هامر، ومحمد لطفي جمعة، وعبد العزيز إسلامبولي، ذهبوا إلى ما ذكره البيروني آنفا. [2]
3 - المستشرق نيكلسون في كتابه: (الصوفية في الإسلام) قال: "وكلمة Mystic التي انحدرت من الديانة الإغريقية إلى الآداب الأوروبية، يقابلها في العربية والفارسية والتركية، لغات الإسلام الثلاث الرئيسة، كلمة (صوفي)، واللفظان على كل حال ليسا مترادفين تماما، لأن للفظة الصوفي مدلول ديني خاص، وقد قيدها بالصوفية الذين يدينون الدين الإسلامي، والكلمة العربية وإن اكتسبت على مدى الأيام مدلول الكلمة الإغريقية الواسع: شفاه مقفلة بالأسرار القدسية، وعيون مغمضة على النشوة الحالمة؛ إلا أن مدلولها كان متواضعا، يوم جرت على الألسنة لأول مرة، حوالي نهاية القرن الثاني الهجري" [3].
- الشاهد من كلامه: أن الكلمة اكتسبت مدلول الكلمة الإغريقية على مدى الأيام، فهذا الرأي يرجع بمضمون الفكرة إلى جهة إغريقية، وهذا هو المهم.
¥