ثم الخارق: إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها دينا وشرعا إما واجب أو مستحب وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكرا وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه كان سببا للعذاب أو البغض كالذي أوتي الآيات فانسلخ منها: بلعام بن باعورا لاجتهاد أوتقليد أو نقص عقل أوعلم أو غلبة حال أو عجز أو ضرورة
فالخارق ثلاثة أنواع: محمود في الدين ومذموم ومباح فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة وإلا فهو كسائرالمباحات التي لا منفعة فيها قال أبو علي الجوزجاني: كن طالبا للاستقامة لا طالبا للكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطلب منك الاستقامة
قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا أصل كبير في الباب فإن كثيرا من المجتهدين المتعبدين سمعوا بالسلف الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك ويحبون أن يرزقوا شيئا منه ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهما لنفسه في صحة عمله حيث لم يحصل له خارق ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك بابا والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة - يقينا فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا والخروج عن دواعي الهوى فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة فهي كل الكرامة
ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحا وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسدا فالأحوال يكون تأثيرها محبوبا لله تعالى تارة ومكروها لله أخرى
وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن وهؤلاء يشهدون بواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم أنه كرامة من الله له ولا يعلمون أنه في الحقيقة إنما الكرامة لزوم الاستقامة وأن الله تعالى لم يكرم عبدا بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
وأما ما يبتلي الله به عبده من السر بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء - فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه وشقي بها قوم إذا عصوه كما قال تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا} ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام:
قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة
قسم يتعرضون بها لعذاب الله
وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات كما تقدم
وتنوع الكشف والتأثير باعتبار تنوع كلمات الله وكلمات الله نوعان: كونية ودينية:
فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: [أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر] قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} وقال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته} والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق
والنوع الثاني: الكلمات الدينية وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي أمره ونهيه وخبره وحظ العبد منها العلم بها والعمل والأمر بما أمر الله به كما أن حظ العباد عموما وخصوصا العلم بالكونيات والتأثير فيها أي بموجبها فالأولى تدبيرية كونية والثانية شرعية دينية فكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية وقدرة الأولى التأثير في الكونيات إما في نفسه كمشيه على الماء وطيرانه في الهواء وجلوسه في النار وإما في غيره بإصحاح وإهلاك وإغناء وإفقار وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات إما في نفسه بطاعة الله ورسوله والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطنا وظاهرا وإما في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيطاع في ذلك طاعة شرعية
¥