فالقاعدة في النفي هو نفي كل ما ينافي أوصاف الله تعالى الثابتة له. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قبل ذلك الكلام:
كل ما نفي صفات الكمال الثابتة لله، فهو منزه عنه. فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر. فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه وأنه قديم واجب القدم، علم امتناع العدم والحدوث عليه وعلم أنه غني عما سواه. فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه لنفسه، ليس هو موجودا بنفسه بل بغيره وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه - فلا يوجد إلا به.
- وهو سبحانه غني عن كل ما سواه، فكل ما نافى غناه فهو منزه عنه.
- وهو سبحانه قدير قوي، فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه.
- وهو سبحانه حي قيوم فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه.
وبالجملة: فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد؛ فكل ما ضاد ذلك، فالسمع ينفيه كما ينفي عنه المثل والكفؤ. فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف إثبات ضده. فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه.
فلذلك أيضا، كان الله تعالى منزها عن أن يصف بالأكل والشرب؛ لأنهما احتياج إلى غيره، والله هو الغني الذي لا يحتاج إلى غيره؛ ولأنه هو الصمد الذي لا جوف فيه فلا يأكل ولا يشرب.
فبطريق الأولى والأحرى أن يتنزه الرب عن الكبد والطحال ونحو ذلك، لأنها أعضاء الأكل والشرب - والغني المنزه عنهما: منزه عن آلات ذلك.
هذا بخلاف اليد، فإنها للعمل والفعل - وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل، إذ ذاك من صفات الكمال.
وكذلك البكاء والحزن: هو مستلزم الضعف والعجز الذي ينزه عنه سبحانه - بخلاف الفرح والضحك: فإنه من صفات الكمال.
بل الفرح ضد البكاء، والضحك ضد الحزن.
ثم قعّد شيخ الإسلام تلك القاعدة السنية الذهبية في النفي والإثبات لأوصاف الله تعالى بقوله رحمه الله رحمة واسعة:
وما سكت عنه السمع نفيا وإثباتا، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه: سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه. فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته والله أعلم.
ـ[نضال مشهود]ــــــــ[10 - 01 - 08, 10:29 م]ـ
- فقوله تعالى في القرآن: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قوله بأفواههم يضائهون قول اللذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) نفيٌ مجملٌ، لأنه نفي أن يكون لله ابن وولد وسميّ. وفيه إثبات مفصل، هو إثبات وحدانيته تعالى.
- وقوله تعالى فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ((قَالَ: قَالَ اللَّه: ُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا)) نفيٌ مجملٌ، لأنه نفي النقص والعجز عنه تعالى ونفي أن يكون له صاحبة أو ولد. وفيه إثبات مفصل، هو إثبات صفة القدرة والوحدانية له تعالى.
- وقوله تعالى: ((ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب)) نفيٌ مجملٌ، لأنه نفي اللغوب الذي هو النقص عن الله تعالى. وفيه إثبات مفصل لكمال قوته وقدرته وخالقيته تعالى.
- وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ)) هو نفيٌ مجملٌ يليق بالحال والمقتضى، وهو نفي الصم والغياب الذي ينافي كمال سمعه تعالى وقربه.
- وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء النوم: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ)) هو نفيٌ مجملٌ لما هو نقصٌ في التقدم والأولية أو نقصٌ في البقاء والآخرية أو نقصٌ في العلوّ والظاهرية، أو نقصٌ في القرب والدنو والباطنية. وفيه إثبات مفصل لكل صفة من هذه الأوصاف الكاملة الدالة على غناه تعالى عما سواه وافتقار غيره إلى غناه سبحانه وتعالى.
- وكذلك قوله فيما رواه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا)) هو نفيٌ مجملٌ لكل ما ينافي عدله وأمنه تعالى، فإنه العدل المؤمن الذي لا يظلم أحدا ولا يحتاج إلى الظلم أبدا لكمال غناه وقدرته وملكه وحكمته.
- وكذلك قوله تعالى في القرآن: ((وما الله بغافل عما تعملون)) هو نفيٌ مجملٌ عن النقص والتمثيل المتضمن إثبات كمال بصره وتمام علمه، كما قال في غير موضع من القرآن نفسه: ((والله بصير بما تعملون))، ((والله بما تعملون بصير))، ((إن الله بما تعملون بصير)).
فما كان فيه من صواب فمن الله تعالى، وله الحمد في الأولى والآخرة. وما كان فيه من خطإ أو تقصير، فمن نفسي ومن الشيطان، والله هو المستعان.
¥