وكذلك قولك: [بخلاف الفرح والضحك: فإنه من صفات الكمال] لا يسلَّم لك به على إطلاقه، بل الفرح والضحك الملازم للكمال هو ما كان في موضعه، وعلى مقتضى الحكمة .. فقياس الغائب على الشاهد ليس مطردا، وغالبا ما يؤدي إلى مآزق عند اللجوء إليه. وبالعودة إلى مسألة اليد، وارتباطها بالفعل، وكون ذلك من صفات الكمال .. قد يعترضك معترض بالسؤال التالي: هل أثبت الله سبحانه وتعالى للملائكة فعلا وعملا؟ وستجيب حتما: نعم. ثم سيقول لك: هل للملائكة أيدي؟ وهنا قد تجيب .. وقد لا تجيب .. وإذا قلت: هناك ملائكة لهم أيدي، بدليل قوله تعالى: (بأيدي سَفَرَةٍ. كرامٍ برَرَةٍ). قد يعترض عليك بقوله تعالى: (الحمد لله فاطرِ السماوات والأرض جاعلِ الملائكةِ رسُلاً أولي أجنحةٍ مثنى وثُلاثَ ورُباعَ، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير)، ثم قد يسألك: ما الأكمل؟ الأيدي؟ أم الأجنحة؟ ثم قد يسألك: هل للجن أيدي؟ وإذا لم تكن لهم أيدي في أصل الخلقة، فهل يعني ذلك نفي الفعل والعمل عنهم؟ ... إلخ.
ومن هنا يتبين أنه ينبغي التثبت عند محاولة تعليل الإثبات، لأنه قد يؤدي إلى التناقضات. وهنا أعود إلى ما وعدتك بالعودة إليه في أول كلامي، والمتعلق بقول شيخ الإسلام في "التدمرية": "والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل، ونفي مجمل". وأكتفي بإيراد ما أورده صاحب "تقريب التدمرية"، لأنه غاية في الوضوح والبيان، حيث يقول:
"واعلم أن الصفات الثبوتية التي وصف الله بها نفسه كلها صفات كمال، والغالب فيها التفصيل، لأنه كلما كثر الإخبار عنها وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما لم يكن معلوماً من قبل؛ ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه.
وأما الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه فكلها صفات نقص ولا تليق به كالعجز، والتعب، والظلم، ومماثلة المخلوقين، والغالب فيها الإجمال؛ لأن ذلك أبلغ في تعظيم الموصوف وأكمل في التنزيه. فإن تفصيلها لغير سبب يقتضيه فيه سخرية وتنقص للموصوف، ألا ترى أنك لو مدحت ملكاً فقلت له: أنت كريم، شجاع محنك، قوي الحكم، قاهر لأعدائك إلى غير ذلك من صفات المدح، لكان هذا من أعظم الثناء عليه، وكان فيه من زيادة مدحه وإظهار محاسنه ما يجعله محبوباً محترماً؛ لأنك فصلت في الإثبات.
ولو قلت: أنت ملك لا يساميك أحد ملوك الدنيا في عصرك؛ لكان ذلك مدحاً بالغاً؛ لأنك أجملت في النفي.
ولو قلت: أنت ملك غير بخيل، ولا جبان، ولا فقير، ولا بقال، ولا كناس ولا بيطار، ولا حجَّام، وما أشبه ذلك من التفصيل في نفي العيوب التي لا تليق به؛ لعد ذلك استهزاء به وتنقصاً لحقه".
وأكتفي بما أثبته باللون الأحمر من كلام الشيخ للتنبيه على ما ورد في كلامكم.
وفي الأخير: أشكر لك جهدك، وأثمِّن مساهمتك، وأتمنى أن تستمر فيما بدأت فيه، جزاك الله خيرا. لكن رجائي أن تستوقفك ملاحظتي الأخوية، وأن تجيبني عنها بما ينفعني وينفع كافة من يقرأ هذه الصفحة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـ[نضال مشهود]ــــــــ[18 - 01 - 08, 02:13 م]ـ
أخي الكريم الجهشياري - زادك الله حرصا وجزاك عن نيتك الطيبة.
أرجو أن تقرأ (التدمرية) مرة واحدة على الأقل لتستغني بها عن ردي على ما في كلامك.
والله الموفق للرشد والسداد. . إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ـ[الجهشياري]ــــــــ[18 - 01 - 08, 05:01 م]ـ
الحمد لله وحده.
الأخ الفاضل "نضال مشهود": السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكر لك تنبيهك اللطيف وأدبك الجم، بارك الله فيك. وإحالتك على "التدمرية" كانت مقصدي منذ البداية. فأنا بصدد إعداد إنجاز بحث حول "المنهج السجالي لعلماء السنة في مسائل الصفات"، والإشكال المحوري فيه ليس أدلة الإثبات، بل مناهج الاستدلال والاحتجاج. وقد لاحظت بالاستقراء أن هناك استدلالات نعتبرها قوية إذا أُخذت معزولة أو في سياق استدلالي محدود، لكننا إذا عدنا إلى منهج الإثبات في إطاره الشامل، نكتشف أنها تثير بعض الإشكالات، وقد تفتح بابا لإيرادات المخالف. وهذه "الثغرات" هي (حسب ما توصلت إليه إلى حد الآن) محدودة، وبعضها مردُّه عدم وضوح العبارة، والبعض الآخر أحيانا مصدره مماشاة الخصم في منهجه الاستدلالي. لكن جمعها وإيضاحها يظل عملا ضروريا، لأن من شأنه التمييز بين منهج السلف وطرائق الحجاج عن منهج السلف. والله أعلم.
وبالعودة إلى موضوعنا، أطرح عليك الأسئلة التالية:
1_ بماذا تفسر تأكيد شيخ الإسلام ابن تيمية على أن "الله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصَّل، ونفي مُجْمَل"، ثم تفصيله في نفي الأكل عنه _ عز وجل_ ونفي لوازمه، ونفي لوازم لوازمه. هل في المسألة تعارض؟ وإن لم يكن، أرجو الإيضاح.
2_ هل التعليل ينطبق على كل الصفات الثابتة لله تعالى. ثم ألا ترى أن التعليل قد يفتح بابا للتأويل. فقد تفطن الشيخ البراك إلى شيء من ذلك في شرحه للتدمرية، في نفس الفصل الذي نحن بصدد مناقشته، فأضاف: " لكن لو فرض أن الخبر جاء بإثبات الفعل ولم يأت بإثبات صفة اليد لم يكن لنا أن نثبتها لأنها من قبيل الجائز".
3_ هل قياس الغائب على الشاهد في مسائل العقيدة مشروع على إطلاقه؟ أم مرفوض على إطلاقه؟ وأذكر أن ابن القيم رحمه الله قرر أنه يكون تارة حقا وتارة باطلا. فما هي معايير الحق منه ومعايير البطلان؟
4_ أتمنى لو تفضلتم بالإجابة على الإيرادات التي ذكرتُها في الرسالة السابقة، والتي قد يحتج بها المعترض على كلام شيخ الإسلام في "الخاتمة الجامعة" من التدمرية. جزاك الله خيرا.
وفي الأخير: أشكر لك جوابك والرفق فيه، وأسأل الله أن يفتح عليك بالجواب عما أوردته من إشكالات. بارك الله فيك.
¥