ثانيا: فقدان اليد ممن شأنه أن يفعل باليد نقصٌ، وأما فقدان اليد ممن ليس من شأنه أن يفعل باليد فليس ذالك له نقصًا - بل لا يسمى عندئذ: فقدانًا. بل يكون عندئذ: بقاء على الأصل.
ثالثا: فنحن لا نثبت لله يدًا ابتداءً من جهة أنهما كمال يليق بجلال الله تعالى (فإن هذا لا يعرف ببداهة العقول ولا بقياساتها). بل نثبتها لورود السمع الصحيح بها مع عدم المعارض العقلي لها. ثم نستدل بذلك الورود الشرعي أن اليد الذي وُصف الله بها يد كريمة مباركة تليق بجلاله تعالى. وهذا دقيق لطيف، والحمد لله على التوفيق.
ومن هنا يتبين أنه ينبغي التثبت عند محاولة تعليل الإثبات، لأنه قد يؤدي إلى التناقضات. وهنا أعود إلى ما وعدتك بالعودة إليه في أول كلامي، والمتعلق بقول شيخ الإسلام في "التدمرية": "والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل، ونفي مجمل". وأكتفي بإيراد ما أورده صاحب "تقريب التدمرية"، لأنه غاية في الوضوح والبيان، حيث يقول:
"واعلم أن الصفات الثبوتية التي وصف الله بها نفسه كلها صفات كمال، والغالب فيها التفصيل، لأنه كلما كثر الإخبار عنها وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما لم يكن معلوماً من قبل؛ ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه. وأما الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه فكلها صفات نقص ولا تليق به كالعجز، والتعب، والظلم، ومماثلة المخلوقين، والغالب فيها الإجمال؛ لأن ذلك أبلغ في تعظيم الموصوف وأكمل في التنزيه. فإن تفصيلها لغير سبب يقتضيه فيه سخرية وتنقص للموصوف، ألا ترى أنك لو مدحت ملكاً فقلت له: أنت كريم، شجاع محنك، قوي الحكم، قاهر لأعدائك إلى غير ذلك من صفات المدح، لكان هذا من أعظم الثناء عليه، وكان فيه من زيادة مدحه وإظهار محاسنه ما يجعله محبوباً محترماً؛ لأنك فصلت في الإثبات. ولو قلت: أنت ملك لا يساميك أحد ملوك الدنيا في عصرك؛ لكان ذلك مدحاً بالغاً؛ لأنك أجملت في النفي. ولو قلت: أنت ملك غير بخيل، ولا جبان، ولا فقير، ولا بقال، ولا كناس ولا بيطار، ولا حجَّام، وما أشبه ذلك من التفصيل في نفي العيوب التي لا تليق به؛ لعد ذلك استهزاء به وتنقصاً لحقه".
هذا الشرح قيم في الجملة، لكنه مفتقر إلى بيان أن التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي عند شيخ الإسلام مطرد لا استثناء فيه بحال - على حد علمي على الأقل. وإلا، فليتفضل بذكر الاستثناء من وقف عليه في شيء من كتبه وفتاويه. . .
ومن الخطأ في المنهج أن يقول القائل ابتدائًا: (إن لله وجها وعينين ويدين وقدمين، وهو موصوف بالسخط والغضب والإضلال والمكر والانتقام والعذاب الأليم). فما هكذا يصف المرسلون والصديقون ربهم! بل نقول مثلا: (وجه الله ذو الجلال والإكرام)، ونقول: (كلتا يدي الرحمن مبسوطة يمين مباركة)، ونقول: (إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء)، ونقول: (إن الله هو الغفور الرحيم وإن عذابه هو العذاب الأليم). وهذا هو الوصف السني الذي يتضمن مدحًا كاملاً، والله أعلى أعلم.
دمتم - أخي الكريم - موفقا مباركا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـ[نضال مشهود]ــــــــ[18 - 01 - 08, 11:46 م]ـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
بارك الله فيك أخانا الفاضل، وجزاك عنا خير الجزاء. فأنت بذلك قد أزلت الإشكال وأقفلت باب الاعتراض. كل ذلك بأدب عهدناه منك .. ولأن المشاركة الأصلية هي "مدارسة التدمرية"، وحتى لا نخرج عن الموضع الأساس، أتوقف هاهنا. وأسأل الله أن يوفقنا إلى مباحثة المسائل التي طرحتها في مقام آخر لاحقا إن شاء الله (ولعل ذلك يكون بعد الانتهاء من التدمرية)، ويكون موضوعها: طرائق الاستدلال والسجال عند السلف، لا منهج السلف ذاته. ولا ريب أننا سنستفيد جميعا من تناول هذه المسألة.
وثق أنني على متابعة تامة وحريصة لما تكتبه حول التدمرية، وأدعو لك بالتوفيق في كل ما تخطه يداك. جزاك الله عنا كل خير. وإني لأشكر لك مسارعتك إلى الرد، وذلك كرم منك.
وفيك أخي الكريم بارك الله وزادك إيمانا بعد إيمان. . .
واعذرني إن كان في شيء من كلامي بعض الإساءة، أو سبق قلم، أو تفويت لما هو الأنفع والأهم.
¥