فجابر بن عبد الله إنما تكلم في الروايتين عن حكم ترك الصلاة كمسألة لا عن واقع التاركين، ومن هذا تعلم بطلان تأويل هذا الأثر من بعض من لا يرى كفر تارك الصلاة، حيث زعم أن جابرا رضي الله عنه إنما تكلم عن الوضع القائم في عهدهم، من اعتبار الصلاة علامة يفرقون بها بين المسلمين والكفار كما كان النبي يُغِير على القرى التي لا يسمع فيها الآذان، لا على أن الآذان تركه يوجب الكفر، وإنما لأنه علامة على أن هؤلاء الناس من الكفار، باعتبار أنه لم يكن يُترك الآذان في قرى المسلمين.
فمع أن الأثر بألفاظه لا يحتمل هذا المعنى المؤوَّل، باعتبار أن الأثر إنما تكلم عن الأعمال لا عن العُمّال وعن الكفر والإيمان لا عن أصحابهما بصريح اللفظ، وإنما تكلم عن ترك الصلاة كمسألة دون تعرض لواقع عملي، ودون ذكر لوضع لا قائما ولا قاعدا.
مع كل هذا فالمعنى الذي ذهب إليه هذا المؤوِّل المتكلِّف لا يصح شرعا ولا عقلا، إذ كيف يُجعل هذا الأمر الخفي علامة بارزة في أخطر مقام، وهو الحكم على المعين بالكفر؟!
لا على مستوى طائفي شأنه شأن الآذان الشعيرة الظاهرة، وإنما على مستوى أفراد؟ فصلاة الجماعة ليست هي المقصودة، وإنما مطلق الصلاة، هذا لا يستقيم شرعا ولا عقلا.
فمن المعروف الظاهر أنك إذا أردت أن تعرف فلانا من الناس يصلي أم لا؟ فإن هذا يحتاج منك إلى مراقبة دائمة، بحيث لا يغيب عن عينيك لوقت طويل حتى تتمكن من الحكم عليه، لا لوقت صلاة واحدة، فهذا لا يثبت به الترك المطلق، وإنما لعدة صلوات، وهذا متعذر.
فإن أي فرد من الناس قد أوجبت سنة الحياة أن له مأوى يتوارى فيه عن أعين الناس، فمن الصعب جدا معرفة التارك من خلال المشاهدة فقط، بل لو حكم أحد على آخر بأنه تارك من خلال ما يعرفه عنه عن طريق المشاهدة، ثم حكم عليه بموجب هذا الظاهر، كان مخطئا في هذا الحكم عند الجميع، ولهذا اشترط الإمام أحمد ومن تبعه، في الحكم على التارك بالكفر الظاهر، أن يُدعى إلى الصلاة ثم يمتنع،
وما كان هكذا يمتنع جعله علامة ظاهرة كما زعم ذلك المؤول، ولعل حرصه على التأويل صرفه عن تدارك هذا المعنى الباطل.
وقد روى أثرَ جابر هذا الإمامُ محمد بن نصر المروزي، ولم يفهم منه ما فهمه هذا المؤوِّل الذي
لا هم له إلا صرف الأثر عن معناه الظاهر إلى أي معنى يخرج بالأثر عن كونه من أدلة تكفير تارك الصلاة.
فقد استدل الإمام ابن نصر المروزي بالأثر على كفر تارك الصلاة، فبوَّب بابا بعنوان:
(باب ذكر إكفار تارك الصلاة) وساق فيه أدلة المكفرين ومنها أثر جابر: " ما كان يفرق بين الكفر والإيمان ... "
وكذا الإمام عبيد الله بن محمد بن بطة عندما قال:
(باب كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتالهم وقتلهم إذا فعلوا ذلك)
فذكر أدلة المكفرين ومنها أثر جابر ثم قال (895):
" فهذه الأخبار والآثار والسنن عن النبي والصحابة والتابعين، كلها تدل العقلاء ومن كان بقلبه أدنى حياء على تكفير تارك الصلاة وجاحد الفرائض وإخراجه من الملة " ا. هـ
وأقل ما يدل عليه كلام هذين الإمامين أن ذلك المعنى الذي ذهب إليه ذلك المؤول غير مراد عندهما،
وكذلك العلامة الألباني كما في صحيح الترغيب (367) فقد اعتبره شاهدا لأثر عبد الله بن شقيق، مع أنه حمله على المعاند المستكبر، فاستشهاده به دليل على إبطاله لذلك التأويل.
ومما يؤكد دحض هذا التأويل ما سبق من ذكر الرواية الأخرى عن جابر: " ما بين العبد وبين
الكفر ... " فهو من هذا الباب أيضا، وبنفس معنى الرواية المرفوعة: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ... " و " بين الرجل والكفر ترك الصلاة ... " ونحوها، فعلى المؤوِّل أن يقف من كل هذه الروايات موقفا واحدا، إما أن يؤول الجميع بذاك التأويل وعندها سيكشف لنا عن حقيقة باطله، وإما أن يترك الجميع دون تأويل كما هو الصواب، فيثبت ما ذكرناه من الاستدلال.
فأثر جابر بن عبد الله يدل على أن عامة الصحابة متفقون على القول بكفر تارك الصلاة، وأن هذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا، فهو في حكم الرفع قطعا، وحجة بلا نزاع توجب ترك النزاع في هذه المسألة العظيمة والله أعلم.
ب – أثر عبد الله بن شقيق العُقيلي:
قال عبد الله بن شقيق رضي الله عنه:
¥