فهذا إنما يكون حال كون السجود لا يكون إلا عبادة أما إن صح تقسيمه إلى عبادة و غير عبادة، فلا ينطبق هذا الكلام على من يسجد لغير الله سجود تحية و إن أراد بذلك التقرب إلى الله، لأن سجود التحية لا يشرع لله تعالى فضلاً عن أن يكون مختصاً بحنابه سبحانه، و يرد على هذا الكلام أن السجود لا ينفك عن تعظيم المسجود له، و هذا من مواطن الإشكال في المسألة، و قد يجاب عنه بأن التعظيم بالسجود إن ثبت كونه سائغاً في الأمم السابقة انتفى كونه مختصاً بالله عز وجل، و حيث إن العقائد لا تنسخ فإنه يكون في شرعتنا محرماً دون أن يصل إلى درجة الشرك.
قلتم بارك الله فيكم
ومعلوم أن تحية الكبير والمقدم، يقدمها له المحب، والمبغض الشانئ، طالما كان في سلطانه، فهي لاتستلزم التعظيم المنهي عنه، وغايتها إظهار نوع من الإكرام، أما إثبات هذا القدر من التعظيم قدر زائد عن مدلول الآية في سجود إخوة يوسف.
أما بالنسبة للآية فنعم، بل يعسرجداً تصور أن يعقوب قد سجد لابنه يوسف عليهما السلام تعظيماً، إلا إن قيل أنه بسجوده له إنما كان من جهة كون يوسف عليه السلام عزيز مصر فجرى على عادة الناس في ذلك الزمان من السجود لملوكهم بقطع النظر عن كونه يوسف ابنه لا سيما أن السجود كان حال دخول قوم يوسف عليه و يغلب على الظن أنه كان دخولاً مشهوداً.
أما كون التحية لا تستلزم التعظيم، فالكلام إنما هو على السجود بقصد التحية لا على مطلق التحية، و قد سبق بيان أن التعظيم لازم للسجود الاختياري، أما سجود المكره فهو خارج نطاق البحث.
والكلام هنا إنما هو عن السجود للقبر حال كونه تعظيماً بعبادة ما شرعت إلاّ لله، ولا يعني هذا منع مطلق تعظيم ما سوى الله، ولكن المراد المنع من تعظيم ما سوى الله بما يعظم به الله.
و هذا أمر قد ينازع فيه المخالف محتجاً بما ورد من كون هذا التعظيم كان سائغاً في الشرائع السابقة، بل هذا من أقوى حججه على عدم وصف السجود لغير الله على غير معنى العبادة بالكفر، إذ ما لم يكن كفراً أو شركاً في الشرائع السابقة لا يمكن أن يكون كفراً أو شركاً في شريعتنا.
وقال ابن القيم في المدارج: "ومن أنواع الشرك: سجود المريد للشيخ فإنه شرك من الساجد والمسجود له والعجب أنهم يقولون: ليس هذا سجود وإنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراما وتواضعا فيقال لهؤلاء: ولو سميتموه ما سميتموه فحقيقة السجود وضع الرأس لمن يسجد له وكذلك السجود للصنم وللشمس وللنجم وللحجر كله وضع الرأس قدامه ومن أنواعه".
و مما يؤيده أيضاً قول ابن تيمية في الفتاوى 1/ 74: " والشرك أن تجعل لغيره شركا أو نصيبا فى عبادتك وتوكلك وإستعانتك ... وأصناف العبادات الصلاة بأجزائها مجتمعة وكذلك أجزاؤها التى هى عبادة بنفسها من السجود والركوع والتسبيح والدعاء والقراءة والقيام لا يصلح إلا لله وحده ... "
و أيضاً قوله " ... وكذلك حجرة نبينا صلى الله عليه وسلم وحجرة الخليل وغيرهما من المدافن التي فيها نبي أو رجل صالح: لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها باتفاق الأئمة بل منهى عن ذلك
وأما السجود لذلك فكفر " الكبرى 2/ 439
و لكن يعكر عليه قوله في مجموع الفتاوى [جزء 11 - صفحة 604]
" سئل عن أقوام يرقصون على الغناء بالدف ثم يسجد بعضهم لبعض على وجه التواضع هل هذا سنة أو فعله الشيوخ الصالحون
الجواب لا يجوز السجود لغير الله ... " فلم يقل أنه كفر
وقوله أيضاً جواباً لسائل آخر " أما تقبيل الأرض ورفع الرأس ونحو ذلك مما فيه السجود مما يفعل قدام بعض الشيوخ وبعض الملوك فلا يجوز بل لا يجوز الإنحناء كالركوع أيضا ... وأما فعل ذلك تدينا وتقربا فهذا من أعظم المنكرات ومن اعتقد مثل هذا قربة وتدينا فهو ضال مفتر بل يبين له وأن هذا ليس بدين ولا قربة فإن أصر على ذلك استتيب فإن تاب وإلا قتل ... وأما فعل ذلك لأجل فضول الرياسة والمال فلا [أي فلا يجوز] وإذا أكره على مثل ذلك ونوى بقلبه أن هذا الخضوع لله تعالى كان حسنا مثل أن يكره كلمة الكفر وينوى معنى جائزا والله أعلم. "
¥