تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإذا تقرر هذا فبعض الكلمات العربية مما أشكلت أصولها واختلف أهل اللغة فيها، ولعل من ذلك السجود، ولست أنكر بأن السجود في اللغة من معانيه المستخدمة الخضوع والتذلل، ولكن ليس هذا أصله –على الصحيح-الواجب حمله عليه ما لم تدل قرينة على خلافه.

فإذا قلت ما أصله، أقول قال ابن فارس: السين والجيم والدال أصل واحد مطرد يدل على تطامن وذل. ثم نقل عن أبي عمرو: أسجد الرجل إذا طأطأ رأسه وانحنى، وذكر أن منه ما أنشده أعرابي السدي:

*وقلن اسجد لليلى فأسجدا*

يعني البعير إذا طأطأ رأسه.

ونقل السفاريني في غذاء الألباب ما نصه: "قال أبو بكر بن الأنباري من أئمة مذهبنا: السجود يرد لمعان, منها الانحناء والميل من قولهم سجدت الدابة وأسجدت إذا خفضت رأسها لتركب. ومنها الخشوع والتواضع. ومنها التحية, وقال في قوله تعالى {وخروا له سجدا} أنهم سجدوا ليوسف إكراما وتحية, وأنه كان يحيي بعضهم بعضا بذلك وبالانحناء فحظره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر كلامه الإمام الحافظ ابن الجوزي ولم يخالفه, فدل على موافقته. وأما الإمام ابن القيم في الهدي فجزم بتحريم السجود والانحناء والقيام على الرأس وهو جالس. وقال ابن السكيت: يقال: سجد الرجل إذا طأطأ رأسه , وسجد إذا وضع جبهته بالأرض انتهى".

فهذا هو الأصل الصحيح ومن نظر في أمثلة إيرادات العرب وجد ذلك.

ونقل النووي في المجموع عن الأزهري قال: "قال الأزهري: أصل السجود التطامن والميل. وقال الواحدي: أصله الخضوع والتذلل، وكل من تذلل وخضع فقد سجد، وسجود كل موات في القرآن طاعته لما سجد له، هذا أصله في اللغة، وقيل لمن وضع جبهته في الأرض سجد لأنه غاية الخضوع".

إلاّ أن بعضهم –وهو الإمام ابن جرير- قال: "أصل السجود الانحناء لمن سجد له معظماً له بذلك، فكل منحن لشيء تعظيماً له فهو ساجد"، وهذا والذي قبله لا يعارض ما قرره ابن فارس وغيره، ولكنه من قبيل تفسير الأصل ببعض أفراده الأخص، فلا شك أن كل منحن لشيء تعظيماً فهو ساجد، ولايعني ذلك أن المنحن المطأطئ عن ذل أو تكريم لآخر ليس بساجد، فقد نص أهل اللغة كما رأيت على أن هذا أصل السجود.

وشواهد هذا في الربية كثيرة سبق بعضها كقول قائلهم:

وقلن له اسجد لليلى فأسجدا

ولهذا سموا الخمرة سجادة.

وقال كثير:

أغرك منا أن ذلك عندنا * وإسجاد عينيكِ الصيودين رائج

وقالوا كما نقل الخليل نساء سجد فاترات الأعين، وامرأة ساجدة ساجية.

وشجرة ساجدة مائلة، ومنه قولهم نخل سواجد.

قال ابن سيده عن أبي حنيفة، وانشد للبيد:

بين الصَّفا وخليج العين ساكنةٌ غُلْب سواجد لم يدخل بها الحَصَر

قال: وزعم ابن الأعرابي: أن السواجد هنا: المتأصلة الثابتة، قال: وأنشد في وصف بعير

سانية:

لولا الزِّمامُ اقتحم الأجاردا * بالغَرْب أودَقّ النعام الساجدا

والسفينة تسجد للريح أي تميل.

هذا ويحسن التنبيه إلى أن بعض أهل اللغة جعل بعض هذا مجازاً لاعتباره أن أصل السجود هو الخضوع، كما نقل عن بعضهم، ولعل الصواب أن أصله الميل وليس مجازاً وإنما الخضوع معنى يقارن كثراً وليس بلازم.

وإلاّ فخضع ليست مرادفة لسجد، واستخداموا سجدة كما رأيت في مواطن ليست من الخضوع في شيء، ولكنها إلى المسيل أقرب.

فإذا كان أصل السجود لايستلزم تعظيم المسجود له لغة، وأنه كما قيل كان تحية الملوك كان تحية الناس بعضهم بعضاً وهذا قاله غير واحد ولعله نقل عن بعض أهل العلم.

وإذا كانت اللغة لاتستلزم أن يكون السجود من حيث أصل الوضع تعظيماً، فإن العقل كذلك لايلزم بأن يكون السجود تعظيماً، فكم من إنسان يبدي لاآخر أدباً ولينا لغرض مع أن قلبه يعلنه، وقد يسجد اتقاء لشره، وقد يسجد إظهاراً لتكريمه، وقد يسجد طلباً لمغنم دنيوي من نحو مال، أو خوف مغرم دنيوي.

وإذا تقرر أن اللغة والعقل لايلزمان بأن يكون السجود تعظيماً فإن العرف في واقعنا المعاصر يفيد بأن السجود تعظيم، وهذا حق، ولكن ليس شرطاً أن يكون العرف كذلك في الأمم الماضية، كما أن الكلام عن حقيقة شرعية ينبغي أن نفهما وفقاً لوضع اللسان العربي لا أعراف الناس المتباينة المختلفة.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير