قلتم حفظكم الله (ولست أنكر بأن السجود في اللغة من معانيه المستخدمة الخضوع والتذلل، ولكن ليس هذا أصله –على الصحيح-الواجب حمله عليه ما لم تدل قرينة على خلافه.)
فإذا قلت ما أصله، أقول قال ابن فارس: السين والجيم والدال أصل واحد مطرد يدل على تطامن وذل.
فسواء كان أصل السجود هو الخضوع و التذلل أو كان التطامن و الذل فكلاهما يدل على ذل الساجد للمسجود له، سواء سجد طوعاً أو كرهاً، راضياً مختاراً أو كارهاً مجبراً، فأي فرق كبير بين القولين؟
فمن سجد لأي أحد راضياً مختاراً فقد أذل نفسه للمسجود له و ما ذاك إلا لما قام في قلبه من تعظيم للمسجود له، و إلا فلماذا يذل نفسه له؟
و سواء كان سجوده هذا تحية أو إكراماً أو تشريفاً فإنه يكون بذلك قد أذل نفسه للمسجود له ـ على الصحيح من أصل السجود كما ذكرتم ـ و هذا يستلزم تعظيم المسجود له كما هو ظاهر، و الله أعلم.
فإذا كان الذل هو أصل السجود فيكون لازماً من لوازمه لا ينفك عنه، فحتى المكره على السجود و المبغض للمسجود له فإن الذل لازم له من سجوده، فإن اختار المرء لنفسه هذا السجود و هذا الذل و رضي به فلا ريب أن ذلك لا يكون منه إلا تعظيماً للمسجود له، و لذلك يصح و الله أعلم القول بأن التعظيم لازم للسجود الاختياري.
إذا صح ما سبق فيمكن القول أن اللغة و العقل يستلزمان أن يكون الساجد مختاراً راضياً معظماً للمسجود له.
(قلتم شيخنا فإنه إن ثبت أن التعظيم من أصل السجود لاينفك عنه فإن الخروج عن الأصل لأدلة تحريم السجود تعظيماً لغير الله.)
إن ثبت أن التعظيم من أصل السجود فهذا يعني أن السجود لغير الله لم يكن كفراً في شريعة من قبلنا لأنه كان جائزاً فهل يمكن أن يكون كفراً في شرعنا لأنه حرم فيه؟
وقلتم بارك الله فيكم
فهنا صورتان:
الأولى: رجل يريد التقرب إلى الله تعالى بتعظيم أوليائه بشيء ظنه مشروعاً وهو السجود تحية لهم.
والثاني: رجل أراد أن يتقرب لصاحب القبر بالسجود له.
فقلتُ وهناك صورة ثالثة و هي أن الساجد سجد تعظيماً لاعتقاده أن المسجود له يستحق هذا السجود ولم يرد بذلك التقرب إلى الله و لا التقرب ـ تعبداً ـ للمسجود له ...
فقلتم (طالما أثبتم التعظيم فإما أن يكون مصروفاً لله وهذا هو القسم الأول أو مصروفاً لغير الله وهذا هو القسم الثاني، ولايمكن إثبات تعظيم غير متعلق بأحدهما.
فالتعظيم من حيث هو عبادة وعمل قلبي جليل لابد له من معظم متعلق به.)
نحن نتفق شيخنا أن في العبادة تعظيماً للمعبود، و أنه ليس كل تعظيم عبادة، فهذه الصورة الثالثة التي ذكرتُها مبنية على فرض أن سجود التعظيم ليس بالضرورة أن يكون سجود عبادة، و أنا لم أعن ِ أن هذا التعظيم ليس متعلقاً بأحد بل هو متعلق بالمسجود له لكن لا على وجه عبادته، فهذه الصورة هي الموافقة لما يفهم أنه قول الجمهور في المسألة كما قلتم و هو الذي سبب لدي الإشكال و ما تبعه من فتح الموضوع كما لا يخفى عليكم.
قلتُم بارك الله فيكم (بل روى من حديث شريك بسنده عن قيس بن سعد رضي الله عنه ما هو أصلح من هذا صححه الحاكم ووافقه الذهبي –وجاء من غير طريق شريك كما عند البيهقي بإسناد حسن لعل بعض من ضعف أثر شريك من أهل العلم لم يقف عليه- ما يفيد أن السجود كان تحية ... فبين أنه استقر في نفوسهم ترك السجود لقبره إذا لاتتصور تحيته بذلك ولا تنبغي، ولو كان الشأن تعظيماً لما اختلف عنه في قبره أو حياته الدنيوية صلى الله عليه وسلم، فتعظيمه مطلوب حياً وميتاً.)
و هذا شيخنا قد يجاب عنه بأجوبة:
1. المرزبان هو أَحَدُ مَرَازِبة الفُرْسِ وهو الفارِسُ الشُّجاعُ المقدّمُ على القَوْمِ دون المَلِك وهو مُعَرَّب وحكي عن الأَصمعي أَنه يقال للرئيس من العجم مَرْزُبان، و تخصيصهم المرزبان بالسجود يشعر بأن سبب ذلك هو التعظيم، و قد ذكرتمُ في صة النجاشي أن السجود له سجود تعظيم فهذا مثل ذاك.
2. يدل أيضاً على أن سبب السجود هو التعظيم قول قيس رضي الله عنه " رسول الله أحق أن يسجد له " و لو كان الأمر مجرد تحية خالية من التعظيم لاستحسن قيس هذه التحية لكل المسلمين.
3. تعليق الأمر بسجود النساء للرجال بـ " لما جعل الله عليهن من الحق " و لفظ ابن حبان " لما عظم الله عليها من حقه " يشعر أيضاً بنوع تعظيم.
¥