ثم إنني قد قلتُ شيخنا في مشاركة سابقة أن عدم إنكار النبي عليه السلام على معاذ سجوده كإنكاره على من قالوا له اجعل لنا ذات أنواط و إنكاره على من قال له ما شاء الله و شئت يدل على أن معاذاً رضي الله عنه لم يأت بفعل مكفر، و إلا فلا يتصور أن يكون فعله هذا كفراً ثم يكتفي النبي صلى الله عليه و سلم بقوله " فلا تفعلوا ".
قلتم حفظكم الله (شكر الله لك؛ ما هو ظاهر السجود؟
هل الظاهر هو السجود الشرعي؟)
و أيضاً (سبقت الإشارة في رد سابق إلى أن الله تعالى قال: (ويخرون للأذقان) بهذا التقييد ظاهر في الهوي على الوجوه، وقيل: "وفرق بين أن تقول خر ساجداً، وبين أن تقول خر لوجهه ساجداً، أو يخرون للأذقان سجداً. فتقييد الانحطاط [ربما عنيتم الخرور] بالوجوه والأذقان يفهم منه معنى السجود المعروف، بخلاف اللفظ إذا لم يقيد فقد يفهم منه الانحطاط جالساً على سبيل الإكرام.)
لا يخفى عليكم شيخنا أنه لو ثبت أن سجود إخوة يوسف لم يكن بوضع الجباه على الأرض بأن كان مجرد إيماء أو انحناء ـ دون الركوع المعروف ـ لزال الإشكال من أصله، و أنا قد فهمتُ من عبارتكم السابقة أن {خروا سجداً} لا تدل بالضرورة على وضع الوجوه على الأرض بخلاف {يخرون للأذقان سجدا} فأقول:
قال تعالى {خروا سجدا و بكيا} مريم 58 وقال سبحانه {خروا سجدا} السجدة 15 و يوسف100
أما الآية في سورة مريم فقد قال ابن كثير
أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعا واستكانة وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة والبكي جمع باك فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعا لمنوالهم
فهذا يدل على أن السجود هنا هو بوضع الجباه على الأرض كما هو معروف عند المسلمين، فأنتم ترون أن هذه العبارة {خروا سجدا} بدون أي قيد ـ كالأذقان ـ لم يفهم منها إلا السجود على الوجوه.
أما في سورة السجدة فقد اقتصرت أغلب التفاسير على أن المراد هو السقوط على الوجوه قال القرطبي:
وقيل: المراد به السجود وعليه أكثر العلماء أي خروا سجدا لله تعالى على وجوههم تعظيما لآياته وخوفا من سطوته وعذابه
و ذكرت بعض التفاسير أن المراد هو الركوع و هو محكي عن ابن عباس رضي الله عنهما و ليس ذلك لعدم القيد بالأذقان أو الوجوه بل قال القرطبي: قال المهدوي: وهذا على مذهب من يرى الركوع عند قراءة السجدة واستدل بقوله تبارك وتعالى: {وخر راكعا وأناب}
و قال الألوسي: ومن مذهب ابن عباس أن القارئ لآية السجدة يركع واستدل بقوله تعالى: {وخر راكعا وأناب}
فحمل السجود على غير السجود المعروف لم يكن لعدم وجود القيد المذكور بل حملاً له على ما في سورة ص.
أما في سورة يوسف فقد تعددت الأقوال في تفسير ذاك الخرور و السجود و كما يظهر فإن تفسير من فسره بالانحناء أو الإيماء لم يكن بسبب عدم وجود القيد المذكور ـ للأذقان ـ فلم يقل أحد منهم بذلك، و لكنه و الله أعلم لكون السجود بالهيئة المعروفة لغير الله فيه مظنة العبودية لغيره سبحانه و تعالى فتأوله من تأوله صرفاً له عن السجود المعروف.
و المراد مما سبق أن القرآن يفسر بعضُه بعضَه فطالما أن {خروا سجدا} في مريم و السجدة تدل على السجود على الوجوه بلا قيد فكذلك في يوسف فإنها لا تحتاج لقيد كي تدل على هذا السجود.
أما قوله تعالى {يخرون للأذقان سجداً}
فقد قال الطبري [جزء 8 - صفحة 163]
" إذا يتلى عليهم هذا القرآن يخرون تعظيما له وتكريما وعلما منهم بأنه من عند الله لأذقانهم سجدا بالأرض واختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله {يخرون للأذقان} فقال بعضهم: عني به: الوجوه ... وقال آخرون: بل عني بذلك اللحى " ا. هـ
فيكون المعنى عند الأولين يخرون لوجوههم سجداً بالأرض و عند الآخرين يخرون للحاهم سجداً بالأرض، فالسجود على الأرض لم يستفاد من لفظ الأذقان بل من الخرور للسجود.
فتح القدير [جزء 3 - صفحة 377]
¥