فكذلك أهل الاستقامة، ولزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عليه السلف، تمسكوا بالوسط، ولم ينحرفوا إلى الأطراف، فاليهود مثلا جفوا في الأنبياء والصديقين حتى قتلوهم وكذبوهم، كما قال الله تعالى: ((فريقا كذبتم وفريقا تقتلون))، والنصارى غلوا فيهم حتى عبدوهم كما قال تعالى: ((يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق)) الآية.
واليهود انحرفوا في النسخ حتى زعموا أنه لا يقع من الله ولا يجوز عليه، كما ذكر الله عنهم إنكاره في القرآن حيث قال: ((سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)) والنصارى قابلوهم فجوزوا للقسيسين والرهبان أن يوجبوا ما شاءوا، ويحرموا ما شاءوا، وكذلك تقابلهم في سائر الأمور.
فهدى الله المؤمنين إلى الوسط، فاعتقدوا في الأنبياء ما يستحقونه، ووقروهم، وعزروهم، وأحبوهم، وأطاعوهم، واتبعوهم، ولم يردوهم كما فعلت اليهود، ولا أطروهم ولا غلوا بهم فنزلوهم منزلة الربوبية كما فعلت النصارى، وكذلك في النسخ، جوزوا أن ينسخ الله، ولم يجوزوا لغيره أن ينسخ، فإن الله له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره.
وهكذا أهل الاستقامة في الإسلام المعتصمون بالحكمة النبوية، والعصبة الجماعية، متوسطون في باب التوحيد والصفات بين النفاة المعطلة وبين المشبهة الممثلة، وفي باب القدر والعدل والأفعال بين القدرية والجبرية والقدرية والمجوسية، وفي باب الأسماء والأحكام بين من أخرج أهل المعاصي من الإيمان بالكلية كالخوارج أهل المنزلة، وبين من جعل إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والصديقين كالمرجئة والجهمية، وفي باب الوعيد والثواب والعقاب بين الوعيديين الذين لا يقولون بشفاعة نبينا لأهل الكبائر، وبين المرجئة الذين لا يقولون بنفوذ الوعيد. وفي باب الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الذين يوافقون الولاة على الإثم والعدوان، ويركنون إلى الذين ظلموا، وبين الذين لا يرون أن يعاونوا أحدا على البر والتقوى، لا على جهاد ولا على جمعة ولا أعياد إلا أن يكون معصوما، ولا يدخلوا فيما أمر الله به ورسوله إلا في طاعة من لا وجود له.
فالأولون يدخلون في المحرمات، وهؤلاء يتركون واجبات الدين، وشرائع الإسلام، وغلاتهم يتركونها لأجل موافقة من يظنونه ظالماً، وقد يكون كاملاً في علمه وعدله.
اهل الاستقامة ... عند المصيبة
وأهل الاستقامة والاعتدال يطيعون الله ورسوله بحسب الإمكان، فيتقون الله ما استطاعوا، ولا يتركون ما أمروا به لفعل غيرهم ما نهى عنه، بل كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)). ولا يعاونون أحدا على المعصية، ولا يزيلون المنكر بما هو أنكر منه، ولا يأمرون بالمعروف إلا بالمعروف، فهم وسط في عامة الأمور، ولهذا وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم الطائفة الناجية لما ذكر اختلاف أمته وافتراقهم.
ومن ذلك أن اليوم الذي هو يوم عاشوراء الذي أكرم الله فيه سبط نبيه، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي من قتله من الفجرة الأشقياء، وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام. وقد روى الإمام أحمد وغيره عن فاطمة بنت الحسين وقد كانت شهدت مصرع أبيها، عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنه، عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها) 1.
1 أخرجه احمد وابن ماجه، ضعيف جدا ضعيف ابن ماجه 1600.
فقد علم الله أن مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدد ذكرها مع تقادم العهد، فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديث صاحب المصيبة والمصاب به أولا، ولا ريب أن ذلك إنما فعله الله كرامة للحسين رضي الله عنه، ورفعا لدرجته ومنزلته عند الله، وتبليغا له منزل الشهداء، وإلحاقا له بأهل بيته الذين ابتلوا بأصناف البلاء، ولم يكن الحسن والحسين حصل لهما من الابتلاء ما حصل لجدهما ولأمهما وعمهما، لأنهما ولدا في عز الإسلام، وتربيا في حجور المؤمنين، فأتم الله نعمته عليهما بالشهادة، أحدهما مسموما، والآخر مقتولا، لأن الله عنده من المنازل العالية في دار
¥