فإذا حفظ الطالب مقرأ من الفن تقدم للدراسة فيشرحه له الشيخ شرحاً وافياً بقدر ما عنده من تحصيل دون أن يفتح كتاباً أو يحضر في مرجع ثم يقوم هؤلاء للاستذكار فيما بينهم ومناقشة ما قاله الشيخ وقد يأخذون بعض الشرّاح لمقابلته على ما سمعوه أو يرجعون إلى بعض الحواشي ولا يجتازون ذاك المكان من الدرس حتى يروا أنهم قد حصلوا كل ما فيه، وليس عليهم من سرعة أو إنهاء كتاب بقدر ما عليهم من فهم وتحصيل ما في الباب وقد ذكروا عن بعض الطلاب ممن عرفوا بالذكاء والقدرة على التحصيل أنه كان لا يزيد في متن خليل على سطرين فقط فقيل له: "لمَ لا تزيد وأنت قادر على التحصيل" فقال: "لأنني عجلان لأعود إلى أهلي". فقالوا له إن العجلان يزيد في حصته. فقال: "أريد أن أتقن ما أقرأ حتى لا أحتاج إلى إعادة دراسته فأتأخر".
الحياة الدراسية:
دراسة الشيخ رحمه الله: على هذا المنهج كانت دراسة الشيخ رحمه الله إلا أنه تميز ببعض الأمور قل أن كانت لغيره. نوجز منها الآتي:
1 - في مبدأ دراسته: تقدم أنه أتيح له في بادئ دراسته ما لم يتح لغيره حيث كان بيت أخواله مدرسته الأولى، فلم يرحل في بادئ أمره للطلب، وكان وحيد والديه فكان في مكان التدلل والعناية.
2 - قال رحمه الله كنت أميل إلى اللعب أكثر من الدراسة حتى حفظت الحروف الهجائية وبدأوا يقرئونني إياها بالحركات: با فتحة با بي كسرة بي بُ ضمة بو وهكذا ث د ث. فقلت لهم أو كل الحروف هكذا قالوا نعم فقلت كفى إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريقة كي يتركونني. فقالوا اقرأها فقرأت بثلاثة حروف أو أربعة وتنقلت إلى آخرها بهذه الطريقة فعرفوا أني فهمت قاعدتها واكتفوا مني بذلك وتركوني، ومن ثم حُببت إلي القراءة.
3 - وقال رحمه الله: ولما حفظت القرآن وأخذت الرسم العثماني وتفوقت فيه على الأقران عُنيت بي والدتي وأخوالي أشد عناية وعزموا على توجهي للدراسة في بقية الفنون، فجهزتني والدتي بجملين أحدهما عليه مركبي وكتبي، والآخر عليه نفقتي وزادي، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات وقد هيئت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب وملابس كأحسن ما تكون فرحاً بي وترغيباً لي في طلب العلم، وهكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل.
تقوم الحياة الدراسية على أساس منع الكلفة وتمام الألفة سواء بين الطلاب أنفسهم أو بينهم وبين شيخهم مع كمال الأدب ووقار الحشمة، وقد تتخللها الطرف الأدبية والمحاورات الشعرية ومن ذلك ما حدثنيه رحمه الله قال: قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل فسأل عني من أكون وكان في ملإ من تلامذته فقلت مرتجلا:
هذا فتى من بني جاكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا
رمت به همة علياء نحوكم إذ شام برق علوم نوره اشتعلا
فجاء يرجو ركاماً من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا
إذ ضاق ذرعاً بجهل النحو ثم أبا ألا يميز شكل العين من فعلا
قد أتى اليوم صبا مولعاً كلفا بالحمد لله لا أبغي له بدلا
يريد دراسة لامية الأفعال:
وقد مضى رحمه الله في طلب العلم قُدماً وقد ألزمه بعض مشايخه بالقرآن، أي أن يقرن بين كل فنين حرصاً على سرعة تحصيله وتفرساً له في القدرة على ذلك، فانصرف بهمة عالية في درس وتحصيل.
وقد خاطبه بعض أقرانه في أمر الزواج فقال في ذلك وفي الحث على طلب العلم:
دعاني الناصحون إلى النكاح غداة تزوجَتْ بيض الملاح
فقالوا لي تزوج ذات دل خلوب اللحظ جائلة الوشاح
تبسم عن نوشرة رقاق يمج الراح بالماء القراح
كأن لحاظها رشقات نبل تذيق القلب آلام الجراح
ولا عجب إذا كانت لحاظ لبيضاء المحاجر كالرماح
فكم قتلا كميّا ذا ولاحى ضعيفات الجفون بلا سلا
فقلت لهم دعوني إن قلبي من العي الصراح اليوم صاحي
ولي شغل بأبكار عذارى كأن وجوهها ضوء الصباح
أراها في المهارق لابسات براقع من معانيها الصحاح.
أبيت مفكراً فيها فتضحى لفهم الفدم خافضة الجناح
أبحت حريمها جبراً عليها وما كان الحريم بمستباح.
نعم إنه كان يبيت في طلب العلم مفكراً وباحثاً حتى يذلل الصعاب وقد طابق القول العمل.
¥