تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكان قد قال (رحمه الله) قل ذلك: ((وخصومهم ـ يعني خصوم أهل الحديث ـ إما أن ينكروا حصول (العمل) لأنفسهم، أو لأهل الحديث. فإن أنكروا حصوله لأنفسهم، لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم. وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث، كانوا مكابرين لهم على ما يعملونه من نفوسهم، بمنزلة من يكابر غيره على ما يجده في نفسه من فرحه وألمه وخوفه وحبه. والمناظرة إذا انتهت إلى هذا الحد لم يبق فيها فائدة، وينبغي العدول إلى ما أمر الله به رسوله من المباهلة)) (4)

واسمع الإمام مسلماً وهو يقول في كتابه (التمييز): ((واعلم ـ رحمك الله ـ أن صناعة الحديث، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنما هي لأهل الحديث خاصة؛ لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفون بها دون غيرهم. إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم: السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر، من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا. فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم في المذهب، إلى: معرفة الحديث، ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار من نقال الأخبار وحمال الآثار. وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم، حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح)) (1).

ثم قف على هذا الفصل النوراني، وسأنقله لك على طوله من كلام الإمام أبي المظفر منصور بن محمد التميمي السمعاني الشافعي (ت 489هـ). يقول (رحمه الله) في كتابه (الانتصار لأهل السنة): ((واعلم أن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب والظن وللتجوز فيه مدخل، ولكن هذا الذي قلناه (يعني من إفادة خبر الواحد للعلم) لا يناله أحد، إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشتغلاً بالحديث، والبحث عن سيرة النقلة والرواة، ليقف على رسوخهم في هذا العلم، وكنه معرفتهم به، وصدق ورعهم في أقوالهم وأفعالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وما بذلوه من شدة العناية في تمهيد هذا الأمر، والبحث عن أحوال الرواة، والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها. ولقد كانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمةٍ واحدةٍ يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك. وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، وأدوا كما أدى إليهم. وكانوا في صدق العناية والاهتمام بهذا الشأن: ما يجل عن الوصف، ويقصر دونه الذكر. وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم، ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه.

والذي يزيد ما قلنا إيضاحاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الفرقة الناجية قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) (2)، فلا بد من تعرف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه، وليس طريق معرفته إلا النقل، فيجب الرجوع إلى ذلك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تنازعوا الأمر أهله)) (3)، بكما يرجع في معرفة مذاهب الفقهاء الذين صاروا قدوةً في هذه الأمة إلى أهل الققه، ويرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة، وفي النحو إلى أهل النحو= كذا يرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أهل الرواية والنقل، لأنهم عنوا بهذا الشأن، واشتغلوا بحفظه والفحص عنه ونقله، ولولاهم لا ندرس علم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقف أحد على سنته وطريقته!

فإن قالوا: فقد كثرت الآثار في أيدي الناس واختلط عليهم؟

قلنا: ما اختلط إلا على الجاهلين بها، فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير، فيميزون زيوفها، ويأخذون جيادها. ولئن دخل في أغمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث، فلا يروج ذلك على جهابذة الحديث ورتوت (1). العلماء، حتى إنهم عدوا أغاليط من غلط في الأسانيد والمتون. بل تراهم يعدون على كل واحدٍ منهم في كم حديث غلط، وفي كم حرفٍ حرف، وماذا صحف.

(إلى أن قال:) فتدبر ـ رحمك الله ـ أيجعل حكم من أفنى عمره في طلب آثار النبي صلى الله عليه وسلم شرقاً وغرباً، براً وبحراً، وارتحل في الحديث الواحد فراسخ؛ واتهم أباه وأدناه في خبر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان موضع التهمة، ولم يحابه في مقال ولا خطاب، غضباً لله، وحميةً لدينه؛ ثم ألف الكتب في معرفة المحدثين: أسمائهم وأنسابهم، وقدر أعمارهم، وذكر أصارهم، وشمائلهم وأخبارهم؛ وفصل بين الرديء والجيد، والصحيح والسقيم، حباً لله ورسوله، وغيرةً على الإسلام والسنة؛ ثم استعمل آثاره كلها، حتى فيما عدا العبادات، من أكله وطعامه وشرابه ونومه ويقظته وقيامه وقعوده ودخوله وخروجه، وجميع سيرته وسننه، حتى في خطواته ولحظاته؛ ثم دعا الناس إلى ذلك، وحثهم عليه، وندبهم إلى استعماله، وحبب إليهم ذلك بكل ما يمكنه، حتى في بذلك ماله ونفسه = كمن أفنى عمره في أتباع أهوائه وآرائه وخواطره وهواجسه؟!!! (2))).

إذن فالأصل في (خبر الآحاد) الذي يصححه المحدثون أنه يفيد (العلم) عندهم، لأن تصحيح الحديث يقتضي عندهم: ادتماع غلبة الظن بصدق الخبر، مع قرائن إثباته. لأن غلبة الظن تحصل بمجرد صحة السند، أي بانتفاء العلل الظاهرة. أما انتفاء العلل الباطنة، فهو قرائن الإثبات وعلامات مطابقة الخبر لواقع الحال، وهو (العلم).

إذا علمت ذلك، بعد قراءتك كلام أبي المظفر السمعاني الآنف الذكر، فلا بد أنك توافقه وتوافقني في أن المرجع في تمييز الثابت من المشكوك فيه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم هم المحدثون، وأنهم القضاة الذين يحتكم إليهم في ذلك، وأنه لا يحق لمن ليس منهم أن ينازعهم شأنهم وأمرهم.

وفي الوقفة القادمة سنرى بعض أحكامه على الأحاديث، وتخريجه لها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير