ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (24/ 172):
وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا فى الأمر اتبعوا أمر الله تعالى فى قوله ? فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ? وكانوا يتناظرون فى المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم فى المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وإخوة الدين، نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع.
فعائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة فى أن محمدا رأى ربه وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية وجمهور الأمة على قول ابن عباس مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضى الله عنها.
وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحى لما قيل لها أن النبى قال: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم "، فقالت: إنما قال: أنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم حق ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال كما ثبت عن رسول الله وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه الا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام صح ذلك عن النبى إلى غير ذلك من الأحاديث وأم المؤمنين تأولت والله يرضى عنها.
وكذلك معاوية نقل عنه فى أمر المعراج أنه قال: إنما كان بروحه والناس على خلاف معاوية رضي الله عنه ومثل هذا كثير.
وأما الاختلاف فى الأحكام فأكثر من أن ينضبط ولو كان كل ما اختلف مسلمان فى شىء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة.
ولقد كان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان فى أشياء لا يقصدان الا الخير، وقد قال النبى لأصحابه يوم بنى قريظة: " لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة "، فأدركتهم العصر فى الطريق فقال قوم: لا نصلى إلا فى بنى قريظة وفاتتهم العصر، وقال قوم: لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا فى الطريق، فلم يعب واحدا من الطائفتين أخرجاه فى الصحيحين من حديث ابن عمر.
وهذا وإن كان فى الأحكام فما لم يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام، وقد قال: " ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر "؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: " صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هى الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين " رواه أبو داود من حديث الزبير بن العوام رضى الله عنه.
وصح عنه أنه قال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذى يبدأ بالسلام ".
نعم صح عنه أنه هجر كعب بن مالك وصاحبيه رضى الله عنهم لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وظهرت معصيتهم وخيف عليهم النفاق، فهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم حتى أمرهم باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة إلى أن نزلت توبتهم من السماء، وكذلك أمر عمر رضي الله عنه المسلمين بهجر صبيغ بن عسل التميمى لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب إلى أن مضى عليه حول وتبين صدقه فى التوبة فأمر المسلمين بمراجعته.
فبهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع الداعين إليها والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترا بمعصية أو مسرا لبدعة غير مكفرة فان هذا لا يهجر وإنما يهجر الداعى إلى البدعة، إذ الهجر نوع من العقوبة وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولا أو عملا.
وأما من أظهر لنا خيرا فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى الله تعالى فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبى صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله لما جاءوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون ولهذا كان الإمام احمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعى إلى بدعة ولا يجالسونه بخلاف الساكت.
¥