قال الغزالي في (الإحياء): " المرتبة الرابعة من التوحيد: أن لا يرى في الوجود إلا واحد، و هي مشاهدة الصديقين، و تسميه الصوفية الفناء في التوحيد، لأنّه من حيث لا يرى إلا واحدا، فلا يرى نفسه أيضا، و إذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد، كان فانيا عن نفسه في توحيده، بمعنى أنّه فنا عن رؤية نفسه و الخلق ". (ص: 229) طبعة دار القلم الثالثة.
و إن كان هذا الكلام يبدوا للوهلة الأولى منسجما منضدا، فإنه كلام مضطرب، جميل المبنى، فارغ المعنى.
فكيف يعدم الإنسان نفسه و هو موجود؟، و كيف يلغي مشاهدته بعد أن ألغى نفسه و قذفها في العدم؟ وهل الله جلّ وعلا محتاج إلى هذا الفاني عن نفسه ليشهد نفسه بنفسه؟، و من شهد منهم العدم فليصفه لنا؟.
و قد اتفقت كلمتهم على أن أعلى درجات الفناء: أن يفنى من لم يكن و يبقى من لم يزل.
و هذا الكلام يحتمل ثلاثة معاني لا رابع لها:
الأول: إمّا أن يقصد به الفناء عن رؤية المخلوق كحال المغشي عليه و النائم، وهذا إن كان يقع في حالة الذّهول، أو الخوف الشديد، أو السكر؛ فإنه نقص في الإيمان والتوحيد، إذ هو فقدان لقدرة التمييز و السيطرة على العقل، التي يرى بها المخلوق نفسه مخلوقا، و يرى الخالق خالقا.
ثانيا: إمّا أن يقصد به فناء المخلوق في إرادة السالك العابد، وهذا إن كان لباب التوحيد، فإنه ليس الفناء المصطلح عليه عند القوم، وإنما سمي بالفناء: لتلاشي إرادة المخلوق و التعلق به في قلب السالك، أي أنه يدرك حسُّا و علمًا ألا قدرة للمخلوق في نفعه أو ضره.
ثالثا: أن يقصد به فناء المخلوق في الوجود الخارجي، أي الحقيقي لا الذهني؛ فإن للوجود أربع مراتب: وجود خارجي، و ذهني، و رسمي، و لفظي.
وهذا الفناء مكابرة ومعاندة للعقل والحس، باطل بنفسه لا يحتاج في إبطاله إلى شيء.
قال الهروي في (المنازل): " الفناء اضمحلال ما دون الحق علما، ثم جحدا، ثم حقا و هو على ثلاث درجات ... " (ص: 404/ 3) (مدارج السالكين).
وفي هذا الكلام من الفساد ما يوجب التصديق بأنّه وقع في الاتحاد الخاص كما قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنّ اضمحلال ما دون الحق (المخلوق) علما، و إن أمكن وقوعه لقدرة الذهن على تصور ما لا يجوز خارجه، فإنه لا يسمى علما إلا تساهلا في الألفاظ، فإن العلم و الإدراك هو مطابقة صورة ما في الذهن لما هو خارجه، فإن لم يطابق ما في الذهن ما هو في الخارج سمي تخيلا لا علما.
و المخلوق موجود في الخارج (أي موجود حقيقة)، باق للأبد، إمّا إلى الجنّة و إمّا إلى النار، فانعدامه في الذهن ليس علما، و إنما وهما و خيالا إذ هو باق، لا ينعدم بحال.
و عليه انتقل الهروي بعدها إلى الجحود، فقال: - اضمحلاله جحودا -، و هذا يؤكدّ أنه لم يضمحل علما، فأراد جحد وجوده، و هذا إنكار و مكابرة، قال تعالى: (و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) (النمل: 14).
و أما اضمحلاله حقا، فلا يكون إلاّ بالاتحاد، لأن الحق هو إدراك الحقائق على ما هي عليه، و الحقائق تثبت حسا و وجدا، أنّ الربّ ربّ، و الإنسان إنسان، فما بقي إلا الاتحاد ليكون اضمحلال المخلوق حقا.
و أما اضمحلاله مشاهدة، و التي لم يذكرها الهروي لأنه جعلها من باب الاضمحلال الأول، أي الاضمحلال علما، فإن أمكن وقوعه في حالة غيبة العقل، فهو زيف وسراب، إذ بمجرد عودة العقل تنقضي المشاهدة ويعود المخلوق إلى وجوده، ولذلك قالوا:"دوام الحال من المحال"، وهم يقصدون: عدم دوام المشاهدة والاتصال.
فإذا عرفت معاني الفناء و انقسامه ضرورة إلى ثلاث أقسام، وجب ذكر هذه الأقسام بصورة أوضح، فنقول:
القسم الأول من الفناء:
أول أقسام الفناء: الفناء عن وجود المخلوق، وهو الذي يذكره البوطي في القسم الثالث، و هو فناء القائلين بوحدة الوجود، و أصلهم الذي بنوا عليه هذا الفناء: أنّه لا يوجد وجودان ممكن وواجب، فلا يفرقون بين كون وجود المخلوقات بالله، وبين كون جودها هو عين وجوده، فالفناء عندهم فناء عن شهود المخلوق في حالة الغيبة و اليقظة.
¥