فإن خير الهدى هدى محمّد صلى الله عليه وسلم ثم صحابته الكرام ثم من تبعهم بإحسانٍ من التابعين الأجلاّء وأئمة الدين وأعلام الهُدى ومنارات الإسلام، واقتفى أثرهم ووسعه ما وسعهم فلم يحد عمّا كانوا عليه من العمل والقول والفهم، فبهذا يكون المسلم مرتاح الضمير، ومعذورٌ أمام الله سبحانه وتعالى في اتباعه لهم، وقد أغلق في ذلك الباب على الشيطان خشية أن يوصله إلى الابتداع أو اتباع غير هُداهم.
والمسلم مفتاح للخير مغلاقٌ للشر، والحكمةُ ضالته أين ما وجدها فهو أحق بها. وخط رجعته مفتوح متى ما رأى الحق اتبعه، وعمل به، وأين ما وجد الصواب أخذه وقال به، لا يحيده عن ذلك بَطَرٌ أو هوى، ولا يضيرهُ ذلك أمن صغير أو كبير صدَر، أو مِن أقل أو أكثر منه قيمةً بدَر.
وما السبيل الموصل إلى الحق إلا الكلمة الطيبة والدليل الناصع والحجة الواضحة مع فهم سليم وقلب بعيد عن الهوى وحب الذات، ودعوة صادقة يسألها المسلم لنفسه من الله تعالى بأن يريه الحق ويرزقه اتباعه، ويريه الباطل ويرزقه اجتنابه، مهما بلغ من مراتب الفهم والعلم والوضوح والبيان، فعقل الإنسان وفهمه مظنة الخطأ.
بهذه المبادئ العظيمة التي رسمها التشريع لنا يستطيع المسلم الوصول إلى الحق مهما وقفت العقبات أمامه شامخة _ إن كان يريد اتباع الحق _ وإلا فهو يقول مالا يفعل ويدعي مالا يعي.
وقد يكون الحق الذي اختلفت عليه عقول البشر بطلبه أو ادّعائه في أمر لا مكان للاختلاف فيه، وقد يكون ذلك أيضاً في أمرٍ المكان فيه للاختلاف ساحةٌ رحبةٌ يمكن للعقل أن يصول ويجول فيها، فلتفرّق أيها العقل بين ما يمكن أن تخوض فيه ومالا يمكن أن تخوض فيه.
وما يمكن للعقل أن يخوض فيه يكون ذلك بتوضيح البراهين والنقاش العلمي البعيد عن كل آفةٍ تؤول به إلى وحل التنازع المقيت والبلَد الذهني المُميت.
وإني أسألُ الله تعالى أن يوفقني في حواري مع الأخ القدير ممدوح بن متعب الجبرين إلى المعاني العظيمة التي رسمها لنا الشرع في مخاطبة المسلم أخيه المسلم، ففي الحديث " لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه " متفق عليه.
فالأخ الكريم ممدوح بن متعب الجبرين نظّر تنظيراً فريداً لم يأت به أحدٌ من قبل، وقعّد تقعيداً جديداً لم يُسبق إليه حول مسألة تسمية ليلة القدر تسميةً مرتبطةً بليلة الثلاثاء وإبطال كل ما ترتب على خلاف ذلك.
وهو حفظه الله عُرف بالصلاح، وما هذا التنظير الذي نظّره والتقعيد الذي قعّده إلا لنية صالحةٍ في سويداء قلبه، أراد بها الخير ما استطاع، والله يجازي المجتهد على قدر اجتهاده.
وفي عام 1424هـ رأيت بحث الأخ الكريم الذي راج بين الناس، ووقع في نفسي ما وقع من الغرابة والدهشة ممّا أتى به الأخ العزيز سدد الله خطاه على طريق الحق. فلمّا كان هذا العام 1425هـ الذي أعاد فيه الأخ تنظيره وتقعيده وبحثه، وفُتح الحوار معه عبر ملتقيات فضاء، وتوالت عليه الأسئلة والردود مابين مستنكر ومستفسر ومؤيّد ومعجب، وبإجابات الأخ الكريم على هؤلاء عرفت المزيد عن نظريته وقاعدته بل أكاد أني ألممتُ بكل ما أراد الوصول إليه جزاهُ الله خيراً.
فعرفتُ استدلالاتِه وبراهينَه النقلية والعقلية، وما ساقه فهمه واجتهادهُ إليه، واعتراضاتِهِ وتوجيهاتهِ، وتأويلاته وما إلى ذلك من المسائل الشرعية أو العرفية التي تصح أو تبطل إذا بنيناها على النظرية التي أتى بها، وما يلزم ذلك وما لا يلزم.
ولمّا راج هذا الرأي للأخ العزيز القدير حفظه الله هذا العام بين الناس مرةً أخرى، وأصبح حديث بعض المجالس العامة والخاصة. حُقَّ لمن خالفَهُ أن يبدي وجهة نظره من غير تعصّب ولا تشنيع، والخلاف لا يفسد للود قضية، والاختلاف في العلم لا يورث إيغار الصدور، ولا يولّد الشحناء أو البغضاء.
لذلك لما تيقنتُ ممّا سبق من الأدلة والبراهين والحجج والتوجيهات والاعتراضات التي يعتقد بها الأخ الكريم جازماً صحة ما ذهب إليه شرعتُ في بيان عدم صحة هذا الرأي وهذه النظرية وما ورائها من تلازم وانتقاض في بعض الأحكام الشرعية.
¥