وهذه شبهة أخرى لم تكن معروفة فيما مضى من القرون، ابتدعها ورَوّجها الدكتور البوطي ذاته، إذ قرر في كتابه "فقه السيرة" (ص344 - 455) خلال حديثه عن الدروس المستفادة من غزوة الحديبية مشروعية التبرك بآثاره النبي r، ثم قاس على ذلك التوسل بذاته بعد وفاته، وأتى نتيجة لذلك برأي غريب وعجيب لم يقل به أحد من المشتغلين بالعلم، حتى من المغرقين في التقليد والجمود والتعصب والابتداع في الدين.
ولكي لا يظن أحد أننا نتقول عليه أو نظلمه ننقل نص كلامه بتمامه، ونعتذر إلى القراء لطوله، قال: (وإذا علمت أن التبرك بالشيء إنما هو طلب الخير بواسطته ووسيلته علمت أن التوسل بآثار النبي r أمر مندوب إليه ومشروع، فضلاً عن التوسل بذاته الشريفة، وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته r أو بعد وفاته، فآثار النبي r وفضلاته لا تتصف بالحياة مطلقاً، سواء تعلق التبرك والتوسل بها في حياته أ, بعد وفاته، ولقد توسل الصحابة بشعراته من بعد وفاته كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في باب شيب رسول الله r.
ومع ذلك فقد ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله r، وراحوا يستنكرون التوسل بذاته r بعد وفاته، بحجة أن تأثير النبي r قد انقطع بوفاته، فالتوسل به إنما هو توسل بشيء تأثير له البتة. وهذه حجة تدل على جهل عجيب جداً، فهل ثبت لرسول الله r تأثير ذاتي في الأشياء في حال حياته حتى نبحث عن مصير هذا التأثير بعد وفاته؟ إن أحداً من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أي تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد، ومن اعتقد خلاف ذلك يكفر بإجماع المسلمين كلهم ... فمناط التبرك والتوسل به أو بآثاره r ليس هو إسناد أي تأثير إليه، وإنما المناط كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق، وكونه رحمة من الله للعباد، فهو التوسل بقربه r إلى ربه وبرحمته الكبرى للخلق، وبهذا المعنى توسل الأعمى به r في أن يرد عليه بصره، فرده الله عليه، وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره وفضلاته دون أن يجدوا منه أي إنكار. وقد مر بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة في الاستسقاء وغيره، وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني وغيرهم.
والفرق بعد هذا بين حياته وموته r خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوغ له).
ولنا على هذا الكلام مؤاخذات كثيرة نورد أهمها فيما يلي:
1 – لقد أشرنا (ص77 - 78) إلى تعريض البوطي بالسلفيين، واتهامه إياهم بأن أفئدتهم
لا تشعر بمحبة رسول الله r والاستدلال على ذلك بإنكارهم التوسل به r بعد وفاته.
وهذه فرية باطلة، وبهتان ظالم لا شك أن الله تعالى سيحاسبه عليه أشد الحساب ما لم يتبْ
إليه التوبة النصوح. ذلك لأن فيها تكفيراً لآلاف المسلمين دونما دليل أو برهان إلا الظن والوهم
اللذين لا يغنيان من الحق شيئاً.
2 – إنه قد خلط في كلامه السابق بين الحق والباطل خلطاً عجيباً، فاستدل بحقه على باطله، فوصل من جرّاء ذلك إلى رأي لم يسبقه إليه أحد من العالمين.
وإذا أردنا أن نميز بين نوعي كلامه فإننا نقول:
إن الحق الذي تضمنه هو:
أ – أن النبي r قريب إلى الله تبارك وتعالى، وأنه كان رحمة من الله تعالى للخلق.
ب – أنه لا تأثير لأحد حتى للنبي r تأثيراً ذاتياً في الأشياء، وإنما التأثير كله لله الواحد الأحد.
ج – أنه يشرع التبرك بآثار النبي r، وأن الصحابة فعلوا ذلك في حياته r وبإقرار منه.
هذه النقاط الثلاثة صحيحة لا خلاف فيها، ولو وقف الكاتب عندها لما كان ثمة حاجة للتعليق عليه.
وأما الباطل الذي تضمنه كلامه وفيه الخلاف العريض فهو:
أ – أن التوسل بآثار النبي r جائز، وأن الصحابة كانوا يتوسلون بآثاره r وفضلاته.
ب – تسويته بين التبرك والتوسل.
ج – أن التوسل بذاته r جائز كجواز التبرك بفضلاته.
د – أن مناط التوسل به r هو كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق.
هـ - جهله بمعنى كلمة الاستشفاع مما حمله على الاستدلال بها على التوسل المبتدع.
و – افتراؤه على السلفيين بأنهم يرون أن النبي r كان له تأثير ذاتي في الأشياء خلال حياته، وقد انقطع ذاك التأثير بوفاته، وأن هذا هو سبب إنكارهم التوسل به r بعد وفاته!
ز – ادعاؤه أن الأعمى توسل بقربه r من ربه.
ح – ادعاؤه أن محمداً r أفضل الخلائق على الإطلاق.
¥