ومن هذا التشابه الخاص: الشبه التي يضل بها عامة بني آدم، وهي ما يشتبه فيها الحق بالباطل، ومنه القياس الفاسد؛ لأنه تشبيهٌ للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه وإنما كان ضلال هؤلاء بالمتشابه لأنهم لا يجمعون بينه وبين المحكم الذي يبينه ويفْرقه عن غيره، كالاستدلال ببعض النصوص وإغفال غيرها مما يزيل الإشكال الوارد فيها)).
انظر: الرسالة التدمرية (102 - 109)، ومجموع الفتاوى (17/ 353 ـ 445).
وقد وقع في تفسيرالمتشابه الخاص الوارد في النصوص تحريف وانبنى عليه مناهج باطلة في العقيدة؛ كتأويل المبتدعة لنصوص الوحي وتلاعبهم بمعانيها، وجعل نصوص الصفات من المتشابه الذي يتأوَّلونه.
كما قرَّر ذلك السيوطي في: الإتقان (1/ 649 - 658) فزعم أنَّ آيات الصفات من المتشابه! ونقل - موافقاً - عن ابن اللبان ما ذكره في كتاب مستقل من تأويل الصفات، فأتى عليها تحريفاً، على طريقة المؤوِّلة، زاعماً إيَّاها تأويلاً صحيحاً.
بل هو عام في استدلال كل مبطل على باطله بنصوص يدَّعي تشابهها دون النظر في المحكمات البيِّنات الواضحات.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: ((فالمرجئة والجهمية والخوارج والمعتزلة، وكل الطوائف المبتدعة تحتج بنصوص المتشابه على قولها، وبما يفسِّرونه برأيهم وتأويلهم، وكان الإمام أحمد ينكر طريقة أهل البدع الذين يفسرون القرآن برأيهم وتأويلهم، من غير استدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين الذين بلَّغهم الصحابة معاني القرآن كما بلَّغوها ألفاظه ونقلوا هذا كما نقلوا هذا.
وكل طائفة تعتقد من الآراء ما يناقض ما تدل عليه نصوص القرآن يجعلون تلك النصوص من المتشابه، ويقولون إن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما لم يبين الحق بخطابه ليجتهد الناس في معرفة الحق من غير جهته بل بعقولهم وأذهانهم، يعنون أنهم يعتقدون معنى بعقولهم وأذهانهم ثم يتأوَّلون القرآن عليه بما يمكنهم من التأويلات والتفسيرات المتضمنة لتحريف الكلم عن مواضعه)). انظر: مجموع الفتاوى (17/ 361 - 355 - 415).
ومما يماثل ما تقدَّم من الكلام على المتشابه من النصوص:
المتشابه من الأحكام، وهي: (ما لم يتبيَّن حلُّها أوحرمتها تبيناً واضحاً)؛ لكونها برزخاً بين الحلال والحرام باشتباهها علىكثير من الناس، واستبانت للراسخين في العلم.
كما في حديث النعمان بن بشير ? قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الحلال بيِّن وإنَّ الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ... الحديث)). أخرجه الستة بألفاظ مختلفة، وهذا لفظ مسلم.
والاشتباه في الأحكام يقع لكون الفرع متردِّداً بين أصول تجتذبه وأطراف تتنازعه ولا بد أن يتبيَّن لبعض الناس كونها حلالاً أو حراماً لما عنده من مزيد علم وهداية؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعلمهن كثير من الناس))؛ يدلَّ على أنَّ من الناس من يعلمها.
فمن اشتبه عليه الحكم فإن الواجب عليه حينئذٍ هو: الورع، باتقاء ما اشتبهه.
فإن كان الحكم متنازعاً بين الوجوب والندب ـ مثلاً ـ فعله خروجاً من حياط الشبهة وإن كان الحكم متنازعاً بين الحرمة والكراهة التنزيهية - مثلاً - تركه ورعاً وحيطةً.
كما قال صلى الله عليه وسلم: ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))، ومن لم يشتبه عليه فليحمدالله سبحانه وتعالى على توفيقه وهدايته. انظر: فتح الباري (1/ 154) و (4/ 341)، جامع العلوم والحكم (66 - 75).
تمهيد ثان ٍ:
الفائدة المقصودة من هذا المطلب بيان قِدَم شأن الاستدلال بالشبهة لمعارضة الحق بها، وأنَّ المبتدعة لهم سلف سوء في الغابرين، بل كل ضال فله أئمة في الضلالة سابقين.
كما قال الله سبحانه وتعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوَّاً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربُّك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} [الأنعام: 112].
وقال سبحانه وتعالى: {وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} [البقرة: 118].
¥