وقال سبحانه وتعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاَّ قالوا ساحر أو مجنون} [الذاريات: 52].
الخلاصة:
وقد أحببت قبيل الشروع في ذا المطلب التنبيه إلى ضرورة إدراك التفريق المهم بين حالين مختلفين لمن يتعامل مع الشرع ونصوصه؛ ذلك أنَّه ليس كل جدال أو بحث في الشرع أوالنصوص مذموم ألبته، بل الأمر فيه تفصيل وتفريق.
فإنَّ سنَّة الاسترشاد عن مدلولات بعض النصوص سنَّة قديمة، والجدال القائم لطلب بيان الحق.
أوإزالة الإشكالات الواردة في توهُّم تناقض أو تعارض بعض النصوص طريق من طرق الصالحين مسلوكة.
لذا فهذه (أمثلة سريعة مقتضبة) لكلا الحالين المختلفين، وإشارة لمبدأ كليهما وتسلسله وتعاقب توارد الطائفتين عليه:
(1): الحال الأولى: وهي ما يورده المبتدع (مريض الشبهة) من شبهات معترضة على الشرع؛ بقصد الاعتراض ومحاولة التهويش على النصوص المحكمة بالمتشابه منها، أو الاعتراض بالرأي والقياس ومحصَّل زبالة الأذهان، أو بادِّعاء تناقض النصوص واضطرابها ونحو هذه المقاصد والمسالك؛ وهذا هو الزيغ عن الطريق القويم، واتباع المتشابه المذموم بقصد الفتنة؛ وهذا كالكفار والجهميِّة والمعتزلة والفلاسفة والمتكلِّمين بأصنافهم، والزنادقة المنافقين من الملحدين والرافضة وأشباههم، وكل منحرف عن أصل هذا الدين وطريقة السلف الصالحين، وهي مبثوثة في كتبهم المنحرفة، كما سيأتي.
أمثلة للحال الأولى:
1 ـ ((اعلم أنَّ أوّل شبهة وقعت في الخليقة هي شبهة إبليس لعنه الله، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص، واستكباره بالمادة التي خلق منها وهي النار على مادة آدم ? وهي الطين؛ وذلك حين قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف: 12]، ودعواه أنَّه خير من آدم، وأنَّ النار خير من التراب دعوى كاذبة خاطئة.
وقد ردَّ شبهة إبليس اللعين وبيَّن بطلانها الإمام ابن القيِّم؛ فانظره في: بدائع الفوائد (4/ 321) ومختصر الصواعق المرسلة (152 - 155).
وانشعبت من هذه الشبهة شبهاً عدَّة، وسارت في الخليقة وسرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعةٍ وضلالة.
هذا وكلُّ من جادل نوحاً وهوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم فقد نسج على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاته؛ فاللعين الأول لما حكَّم العقل على من لا يُحْكم عليه بالعقل لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق، أو حكم الخلق في الخالق، والأول غلو، والثاني تقصير.
وكما تقرَّر أن الشبهات التي وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك التي وقعت في أوَّل الزمان، كذلك يمكننا أن نقرِّر في زمان كل نبي ودور صاحب كل ملَّة وشريعة: أنَّ شبهات أمته في آخر زمانه ناشئة من شبهات خصماء أوَّل زمانه من الكفَّار والملحدين وأكثرها من المنافقين.
وإن خفي ذلك علينا في الأمم السالفة لتمادي الزمان فلم يخف في هذه الأمة أنَّ شبهاته نشأت كلَّها من شبهات منافقي زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى، وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى، وسألوا عما منعوا من الخوض فيه والسؤال عنه، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه.
والمنافقون يُخادعون فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وإنما يظهر نفاقهم بالاعتراض في كل وقت، فصارت الاعتراضات كالبذور، وظهرت منها الشبهات كالزروع)) انظر: الملل والنحل (1/ 23 - 29)!
2 ـ ومن الأمثلة: حكاية الله سبحانه وتعالى عن بعض أعداء الرسل في تكذيبهم الرسل بحجج واهية وبأدلةٍ ونظرةٍ مادِّية لا علاقة لها بصحَّة حجَّة الرسول ولا تصلح حجَّة لهم، وإنما غاية ما فيها التشبيه والتلبيس على ضعاف العقول من الدهماء، فتارةً يحتجُّون ببشريَّة الرسول، وتارة بكون أتباعه من الضعفاء، وتارةً بما عندهم من العلم، أوكثرة المال والولد، وتارةً بالمطالبة - تعنُّتاً وتعجيزاً - بالمعجزات، وتارةً بتقليدهم ما عليه الأباء والرؤساء من الدين، وبحجج باطلة كأمثال ما تقدَّم.
¥