وردت عبارات في بعض كتب السلف فسَّروا بها بعض نصوص الكتاب والسنة بما يقتضيه السياق، فظن المخالف، كغيره من أضرابه، أن هذا تأويل للصفات، فطرَّدوا القاعدة في سائر الصفات، فقالوا: أوَّل ابن عباس رضي الله عنهما صفة الساق في قوله تعالى: [يوم يكشف عن ساق] كما نقل ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره، وأوَّل غيره الوجه في قوله تعالى [فثم وجه الله]. وأوَّلوا غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة.
قال المخالف: فدل ذلك على أن مذهب أهل السنة والجماعة هو تأويل الصفات كلها، سوى ما أثبته الأشاعرة من الصفات السبعة المشهورة، القدرة والعلم والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام. وأما سائر الصفات فهي مؤلة، كاليد والعين والوجه والقدم والساق والنزول والضحك والاستواء .. إلى آخر ما أثبته علماء السلف والخلف، وعد المخالفون ذلك الإثبات تشبيهاً ينزه عنه الخالق، وأنه مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة. كذا قالوا.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: أن مقتضى كلام هذا المخالف أنه هو وأشياعه متبعون لمذهب السلف في تأويل الصفات، وأنهم لم يبتدعوا التأويل، بل غيرهم ابتدع الإثبات. وهذا عند التحقيق أبعد ما يكون عن الحق، فغاية ما قدروا عليه بعد البحث والاستقصاء هو بضعة نصوص لا يتجاوز عددها أصابع اليد زعموا أن السلف أولوها. ونحن نعكس عليهم الدليل، فنقول: عندنا مئات النصوص الثابتة المحكمة من الكتاب والسنة في تقرير وإثبات الصفات، لم يتعرض لها أحد من الرواة والمفسرين والشراح من السلف بأي تأويل يخرجها عن ظاهرها، فلِمَ لَمْ يقتصروا إلا على تأويل تلك النصوص القليلة التي ذكرتموها؟
وهذا عندنا ليس له إلا معنى واحد، وهو أنهم أثبتوا الصفات كما وردت في هذا العدد الكثير من النصوص، ولو فرض أنهم قد أولوا تلك النصوص القليلة، كالساق وغيرها فنحن تبع لهم في الإثبات والتأويل ونحن أحق بمذهبهم منكم، حيث سكتنا عن تأويل ما سكتوا عن تأويله، وأوَّلنا ما أوَّلوه (لو صح أنهم أوَّلوه).
•ثم نقول: إن هذه الدعوى من المخالف وغيره، تتناقض مع دعوى سلفه من شيوخ الأشاعرة ومن نحا نحوهم وتأثر بمذهبهم، فإنهم، مع اختلافهم في بيان معنى تلك النصوص المثبتة للصفات، كالعلو والاستواء والوجه واليد و العين والنزول والضحك والمجيء وغيرها، ما بين مثبت لها، ومفوض ومؤول، فقد اتفقت كلمتهم على أن مذهب السلف هو إجراؤها على ظاهرها أي: إثباتُها صفاتٍ لله.
ولم يحتجَّ أحد من هؤلاء بما احتج به هذا المخالف من تأويل بعض السلف لتلك النصوص القليلة. فظهر بهذا شذوذ المخالف، ومن على شاكلته، عن سائر أهل العلم. وإليك بعض نصوص من يَعْتدُّ المخالف بكلامهم:
قال أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين" – في معرض كلامه عن اختلاف الفرق في الصفات – [1/ 285] ((وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه على العرش، كما قال عز وجل [الرحمن على العرش استوى] ولا نقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا كيف وإنه نور كما قال تعالى: [الله نور السموات والأرض] وإن له وجهاً كما قال: [ويبقى وجه ربك] وإن له يدين كما قال: [خلقت بيدي]، وإن له عينين كما قال: [تجري بأعيننا]، وإنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: [وجاء ربك والملك صفاً صفاً]، وإنه ينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب أو ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) اهـ.
قال سمير: فهذا كلام إمامهم الذي ينتسبون إليه في الاعتقاد، وقد أكده وكرره في كتبه الأخرى، كالإبانة وغيرها، وهم إذا أُورِدَ عليهم كلامه كذَّبوا به وأنكروا نسبته إليه.
تنبيه: وقوله هنا عن أهل السنة: إنهم ينفون الجسم، ليس بصواب، بل هم لا يثبتون الجسم ولا ينفونه، وتفصيل ذلك له موضع آخر.
* وقال البيهقي في كتابه المشهور "الأسماء والصفات" [2/ 40] ((باب ما جاء في إثبات العين صفة لا من حيث الحدقة. قال الله عز وجل: [ولتصنع على عيني] وقال تعالى [فإنك بأعيننا] وقال [واصنع الفلك بأعيننا] وقال تبارك وتعالى [تجري بأعيننا])).
¥