من المعلوم أن الدول الغربية هي التي شجعت على ظهور مثل هذا الاهتمام
لتحقيق مطامعها في الشرق الإسلامي .. فها هو (جب) يقول بصراحة تامة:
«وقد كان من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث
الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن،
فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي إندونيسيا وفي العراق وفي
فارس، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا، ولكن من
الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً مهما في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم
مقوماتها» [17].
وهذا التصريح يعلل لنا عطف حكومات الاحتلال الغربية على كل مشاريع
الحكومات الوطنية في الشرق الإسلامي والعربي منه خاصة التي من شأنها تقوية
الشعوبية فيها وتعميق الخطوط التي تفرق بين هذه الأوطان الجديدة، مثل الاهتمام
بتدريس التاريخ القديم على الإسلام لتلاميذ المدارس وأخذهم بتقديسه، والاستعانة
على ذلك بالأناشيد، ومثل خلق أعياد محلية غير الأعياد الدينية التي تلتقي قلوب
المسلمين ومشاعرهم على الاحتفال بها، ومثل العناية بتمييز كل من هذه البلاد بزي
خاص ولا سيما غطاء الرأس مما يترتب عليه تمييز كل منها بطابع خاص، بعد أن
كانت تشترك في كثير من مظاهره [18].
وحتى يحصل لهم ما يريدون، ويتحقق لهم ما يشتهون «أعانت الدول
المحتلة كُلاً في منطقة نفوذه على تدعيم قداسة هذه الأوطان الجديدة في نفوس الناس
بأسلوب علمي منظم، وذلك بمساعدتها على إحياء التاريخ القديم لكل قطر من هذه
الأقطار، ونشط الحفر للبحث عن آثار الحضارات القديمة السابقة على الإسلام في
كل من العراق و سوريا و لبنان و فلسطين وشرق الأردن ومصر؛ لتوهين عرى
الجامعة العربية، ولتشتيت القلوب التي ألف بينها الإسلام وجمعها على لغة واحدة؛
فاستيقظت العصبيات الجاهلية، وراح كل بلد يفاخر البلاد الأخرى بمجده العريق،
وشغلت الصحف بالكلام عن الكشوف الأثرية الجديدة وما تدل عليه من حضارات
البابليين والآشوريين والكلدانيين والحثيين والفينيقيين والفراعنة.
وكانت أصابع الغربيين واضحة في هذه الجهود؛ فقد عاش المسلمون دهوراً
وهم غافلون عن هذه الآثار القديمة لا يعيرونها التفاتاً، ولا يتحدثون عنها حين
يتحدثون إلا كما يتحدثون عن قوم غرباء من الكفرة أو العتاة، لا يثير الحديث عنهم
شيئاً من الحماس أو الزهو في نفوسهم، وظلوا على هذه الحال حتى بدأ الغربيون
بالكشف عن كنوزهم ولفت أنظارهم إليها منذ اتجهت مطامعهم إلى بلادهم.
وللأوروبيين في ذلك أسلوب خبيث ماكر؛ فهم يبدؤون التنقيب ببعوث من علماء
الآثار الغربيين، حتى إذا حققوا ما يهدفون إليه من اهتمام كل بلد من هذه البلاد
بتراثه القديم وتحمسه له وغيرته عليه، ورأوا أن هذه الغيرة تدفعه إلى منافسة
الأجانب في هذا الميدان الذي يعتبر نفسه أوْلى به وأحق، بوصفه وارث هذه
الحضارة، عند ذلك يتخلون عن مهمتهم ويتركونها في رعايته، مطمئنين إلى أنه
سيوالي السير في الخطوط التي رسموها له.
والأدلة على هذا الأسلوب الخبيث كثيرة لا تعوز الباحث؛ فقد بلغ من اهتمام
الأوروبيين بنبش هذا التاريخ القديم واتخاذه أساساً لتدعيم التجزئة الجديدة للوطن
العربي أن عصبة الأمم قد نصَّت في صك انتداب بريطانيا إلى فلسطين على
الاهتمام بالحفريات، وذلك في المادة (21) التي تنص على: «أن تضع الدولة
المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالآثار
والعاديات ينطوي على الأحكام الآتية .. »، وكذلك كان شأن الفرنسيين في سوريا
ولبنان، فقد كان أول ما اهتم به الفرنسيون أن ألَّفوا في خلال الحرب العالمية
الأولى لجاناً في دمشق و بيروت لكتابة تاريخ الشام، فكتبوا منه بعض تاريخ لبنان
وأهملوا تاريخ سوريا، ثم لم يلبث الآباء اليسوعيون في بيروت أن كلفوا ثلاثة من
رهبانهم الفرنسيين سنة 1920م بكتابة هذا التاريخ، بعد أن قسموه إلى ثلاثة
عصور: العصر الآرامي والفينيقي، والعصر اليوناني والروماني، والعصر
العربي.
ومما لا تخفى دلالته في هذا الصدد أن الثري الأمريكي اليهودي الأصل
روكفلر (ابن روكفلر الكبير) صاحب الملايين، قد أعلن سنة 1926م عن تبرعه
¥