" فإن كان هناك محاربا للمسلمين معينا للكفار بخدمة , أو كتابة: فهو كافر - وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها ".
وتأمل هنا معنى بديعا لاينبغي أنت تعرض عنه! وهو أن ابن حزم رحمه الله لم يعذر هذا المعين للكفار وهو في بلادهم قد لحق بها مختارا، وإن كان قد بقي في بلادهم لأجل الدنيا لا محبة في دينهم، فهو قد جعل البقاء في بلادهم لأجل الدنيا كفر إذا كان قد جر إلى إعانتهم على المسلمين ولو بالكتابة! ولم يذكر حكم تعمد إعانتهم لأجل الدنيا وهو مقيم في بلاد المسلمين! لأن مثل هذا في مثل ذهن هذا الإمام في مثل عصره عزيز أو معدوم.
والحاصل أن الإعانة داخلة دخولا أوليا في التولي وهي من أظهر صوره.
والجواب عن الاستدلال بحديث علي رضي الله عنه في الصحيحين في قصة حاطب رضي الله عنه – اختصارا – من وجوه:
الأول:
أن حديث حاطب رضي الله عنه ليس نصا محكما يصلح أن يخصص عموم الأدلة السابقة وأن ترد لأجله نصوص أهل العلم، بل هو مشتبه لايجوز أن ترد المحكمات لأجله، والاستدلال بالمشتبهات في مقابل المحكمات من أصول أهل الأهواء.
الثاني:
أن حاطب رضي الله عنه لم يتحقق فيه وصف الإعانة، ولم يرد حقيقتها بفعله، وإنما أراد (إيهام المشركين بالإعانة) طلبا للدنيا مع حفظ الدين، والإيهام بالإعانة ليست كفرا ظاهرا لايقبل فيه تأويل كماهو الحال في الإعانة.
والدليل على أنه إنما أراد الإيهام بالإعانة أنه قال كما في (الفتح 7/ 520) عن بعض أهل المغازي:
(أما بعد، يا معشر قريش، فإن رسول الله جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم والسلام)
فكتابه في حقيقة الأمر (إعانة) للمسلمين لا للكفار فهو تثبيط للكفار وإذهاب لريحهم.
الثالث:
أن حاطب رضي الله عنه كان متأولا في هذه الصورة الخفية من صور الإعانة، ومثلها يصلح فيها التأويل، فقد جاء في بعض ألفاظ الحديث:
" قد علمت أن الله مظهر رسوله ومتم له أمره"
فهو يرى أن فعله ليس فيه أدنى إعانة للكفار على المسلمين وأنهم لن يستفيدوا منه شيئا، ومع هذا كان كبيرة من كبائر الذنوب، وسلط الله عليه بعض أكابر الموحدين بذنبه هذا فكفره وقال عنه بأنه منافق فلم ينكر النبي صلى الله عليهوسلم على عمر هذا التكفير وإنما استفصل من حاطب عن السبب الحامل له على هذا لينظر أله فيما فعل تأويل أم لا؟ وليتحقق من صورة فعله هل هي داخلة في الإعانة أم لا؟.
وقد أخرج البخاري رحمه الله قصة حاطب في كتاب (استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم) في (باب ما جاء في المتأولين).
و قال الحافظ في (الفتح 8/ 634): "وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولاً ألاّ ضرر في ذلك).
فوجه قبول التأويل هو أنه ظن ألا ضرر في ذلك على المسلمين، فكيف لو علم يقينا أن فعله نافع للكفار فاتك بالمسلمين؟!
وإن كان فعله اليسير هذا قد جر عليه اسم النفاق من بعض الصحابة وهو الصحابي البدري فكيف لا يسوغ إطلاقه على بعض أوباش العرب الذين لم نر وجوههم إلا إلى الكفار؟!
وديدن المتأخرين – هداهم الله – هو قياس ضرب الوجه على القتل، وقياس القبلة على الزنا، وقياس فعل حاطب على ركوب الصعب والذلول مع النصارى على الموحدين، وحكم الحاكم في مسألة -بغير حكم الله - لهوى على مسخ الشريعة وإحلال القوانين مكانها حكما بين المسلمين،وحلف الفضول ومعاهدة يهود المدينة على التحاكم المستبين لرؤوس الكفر في الشرق والغرب، وقياس إكراه فرد مسلم على قول كلمة كفر في حال سريع الزوال على إكراه جماعة عظيمة من المسلمين لهم شوكة ومنعة على هدم التوحيد وفتح وسائل الشرك في بلادهم لأن هذا من إكراه دولة لدولة وهو من النوازل! والتاريخ لايرحم.
فإن قيل: إن التكفير شأنه خطير وهو يجر إلى كيت وكيت من المفاسد (التي غالبها موهومة) وهذه المسائل لايتكلم فيها إلا العلماء الكبار، فالجواب من وجوه:
الأول:
أن خطورة التكفير لاتعني تحريف أحكام اللطيف الخبير، ففي السكوت عن الكلام – على التسليم بجوازه – سعة، أما تبديل أحكام الدين باسم الخوف من الفتنة فليس من منهاج الهداة المهتدين.
¥