على أن السكوت عن تبيين هذه المسألة منازع فيه،فقد قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله كما في الدرر (8/ 372):
" وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة، التي اغتر بها الجاهلون، وضل بها الأكثرون، وطريقة الكتاب والسنة وعلماء الأمة تخالف ما استحله هذا الصنف من السكوت، والإعراض في هذه الفتنة العظيمة، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه. فليكن منك يا أخي طريقة شرعية، وسيرة مرضية، في رد ما ورد من الشبه، وكشف اللبس، والتحذير من فتنة العساكر، والنصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهذا لا يحصل مع السكوت، وتسليك الحال على أي حال، فاغتنم الفرصة، وأكثر من القول في ذلك، واغتنم أيام حياتك، فعسى الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عساكر السنة والقرآن، والسابقين الأولين، من أهل الصدق والإيمان".
هذا مع أن الفتنة التي ينكر الشيخ على السكوت عليها هنا هي فتنة (الاستعانة) بالمشركين لا (إعانتهم) فهو يرى أن هذه الاستعانة التي وقعت في زمانه – على ضعف القول بجواز الاستعانة بالمشركين عنده – مع كونها بغير ضوابط هذا الجواز، إلا أن صورتها (استعانة) وحقيقتها (إعانة)! فهو لم يعتبر الادعاء الذي يراه بعض المفتونين من أنواع التأويل، بل نظر إلى حقيقة الأمر وإن خالف اسمه فقال قبل كلامه أعلاه بيسير:
" ومن قصر الواقع على الاستعانة بهم فمافهم القضية وماعرف المصيبة والرزية، فيجب حماية عرض من قام لله وسعى في نصر دينه الذي شرعه وارتضاه وترك الالتفات على إلى زلاته، والاعتراض على عباراته ".
فهذا كلام هذا العالم في فتنة صورتها استعانة وحقيقتها إعانة، فكيف لو رأى فتنة صورتها إعانة وحقيقتها كسر لشوكة جميع المسلمين وإخضاعهم لاستعلاء الكفار المحاربين!
الوجه الثاني:
أن مصطلح: " العلماء الكبار " مصطلح حادث بمفهمومه المعاصر، ف (أل) في العلماء هنا للعهد الذهني، فهو مصطلح يراد به رجلان أو ثلاثة من علماء المسلمين الكبار لاجميع علمائهم الكبار.
ووجود الشوكة مع مجموعة من العلماء – وإن كانوا صادقين صالحين – لايوجب كونهم أهل الحل والعقد في بلد من البلاد فضلا عن الأمة كلها.
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن رحمه الله كما في الدرر: (10/ 399)، معترضا على من زعم إجماع العلماء على جواز أمر أنكره:
: " وأما دعوى هذا المبطل إجماع العلماء ... فكذب ظاهر، وشبهته أن هذه الأمور ظاهرة في جميع الأمصار ولم يسمعوا عالما أنكر، فيقال: بل أنكر كثير من علماء هذا الزمان، ووافق عليه خواص من علماء الحرمين واليمن، وسمعنا منهم مشافهة، ولكن الشوكة مع غيرهم ".
وقد نشأ هذا المصطلح بهذا المفهوم في مقابل إعراض بعض المصلحين عن أهل العلم إعراضا كليا واستقلالهم بأنفسهم ودعوتهم دون رجوع لأهل العلم ولا رفع رأس برأيهم وخاصة أهل العلم الكبار الذين رسخوا في العلم وعركتهم الحياة ? فقام بعض طلبة العلم ليرد هذا الخطأ الناشئ عن التوسع في امتلاك حق الاجتهاد في مصير الأمة بخطأ ناشئ عن قصر الاجتهاد في مصير الأمة على رجلين أو ثلاثة من أهل العلم الكبار!!
الثالث:
أن أهل العلم مجمعون على أن من تبين خطؤه في العلميات أو العمليات لم يجز اتباعه، وأصحاب هذا المصطلح يدعون الأمة كلها لتقليد هؤلاء الكبار تقليدا تاما في نوازل الأمة الكبار ولايسوغون اتباع غيرهم من الكبار وإن تبين خطأ أولئك الكبار، بل ويعقدون الولاء والبراء على أقوالهم ويشنعون على من قال بغيرها وإن كان الدليل معه، وهذا إن سلم في المسائل التي لايتبين وجه الصواب فيها، فكيف يقال به فيما أجمع أهل العلم على خلافه، وأي تبديل للدين وفتح لأبواب الشرك وذرائعه أعظم من هذا؟!
الرابع:
أنهم قالوا عند اختلاف علماء الأمة الكبار (وهم خمسة على الأكثر عندهم) أن على المسلمين أن يتبعوا السواد الأعظم منهم، ومقصودهم بالسواد الأعظم هنا (الكثرة)!
وهذا غير مسلم لا في أصله ولا في فرعه، فالسواد الأعظم – لمجرد كونهم سوادا أعظم بمعنى الكثرة – ليسوا مناطا للاتباع بالاجماع.
والسواد الأعظم المقصود به أهل الحق لا أكثر الطوائف المختلفة في الحق، وإلا فكيف يقال إن السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي – كما جاء عن بعض السلف - وهو واحد؟!
الخامس:
أن العلماء رحمهم الله قد أجمعوا على أن العالم لايتبع بزلته، ولا يقلد ممن ظهر له بالأدلة بطلان نحلته، وهؤلاء – هداهم الله – لاذكر لزلة العالم عندهم البتة! بل ظاهر حالهم ومقالهم يدلك على قولهم بعصمة العلماء، وهم من هذا الوجه فيهم شعبة (تشيع) وهي الغلو في اتباع العلماء كما هو حال الإمامية الغالية، وهم وإن كانوا يدعون أنهم لايقولون بهذا وإنما يقولون بعصمة (الإجماع) لا أقوال الأفراد، إلا أن تنزيل اسم الإجماع على بعض أقوال الأفراد بحجة أنهم هم (الكبار) لا أنهم من (الكبار) هو الذي جرهم إلى هذه الشعبة من شعب البدعة عافانا الله.
فالخلل دخل على هؤلاء من جهتين:
الأولى: أنهم قصروا علة (الكبَر) في أهل العلم الموجبة للاتباع في النوازل على بعض أفرادها وهي الشهرة الناتجة من أحد أسبابها وهي (الشوكة).
الثانية: أنهم خلطوا بين النوازل التي لم يتبين وجه الصواب فيها بالنوازل التي علة الحكم فيها ظاهرة بالإجماع.
مع الأمر النفسي السابق وهو ردة الفعل الناتجة عن الخلل في بعض الإسلاميين المتعجلين.
وبقي مسألتان سأطرقهما إن شاء الله في القسم الثالث من معالم المنهج وهما:
المسألة السابعة: قصر التكفير في الحكم بما أنزل الله على المستحل فقط.
المسألة الثامنة: التوسع في عوارض الأهلية.
والله الموفق.
¥