فمادام الأول واحدا، فيجب أن يكون الصادر عن الواحد إلا واحد، وذلك لأن صدور أكثر من واحد عن ذات الله، يعني تعدد الذات الإلهية، أي وجود كثرة في ذاته تعالى وهذا محال.
ومرجع هذا الكفر الفلسفي أن الله تعالى ليس خالقا لهذا الوجود بل مصدرا له، كما يصدر عن الشمس أشعة، و يفيض من الحوض ماء، ومعلوم أن الأشعة جزء من الشمس، و الماء الفائض جزء من الماء الذي في الحوض، فالوجود جزء من الله، والله واحد بسيط لو صدر عنه اثنان لكانت ذاته متعددة، ومن هنا تعرف مصدر وحدة الوجود.
لقد شبه هؤلاء الله سبحانه وتعالى عنا وعن أوهامنا و عيوبنا و نقائصنا علوا لا تدركه عقولنا و أفهامنا بحمل المرأة، بل جعلوها أكمل منه، فهي تحمل بالتومئين و الله لا يصدر عنه إلا واحد، فالمخلوقات لم تصدر عن فعله الذي هو الخلق، و إنما تولدت عنه نتيجة خصوبته، فهم لا يثبتون خلقا و إنما يثبتون فيضا و صدورا، و عليه فالخلق عندهم هو مجرد التعقل، أي أن قوة الفيض تستند إلى تعقل الله و صدور العقول عنه في ترتيب تنازلي.
فالخلق كما يعرفه المسلمون و أهل الكتاب غير الفيض عند هؤلاء الكفار فإنه عند الفلاسفة لا يقوم به إلا عقل من العقول الكونية التي أثبتوها جزافا، وهو العقل الفعال، أما الله فلا يكون منه إلا الفيض.
فعندهم أول الصادرات، أو أول العقول هو الذي يتكثر منه الوجود، فمن جهة تعقله الله تأتيه الوحدة ومن جهة تعقله ذاته تأتيه التعدد، فهو مصدر إبداع الكثرة.
إن الخلق الذي هو بمعنى الصدور عند هؤلاء فعل ضروري، كما أن حركة القلب في الإنسان ضرورية لا يتحكم فيها بإرادة، فكذلك الصدور من الله ضروري لا يتحكم فيه بمشيئته و إرادته و اختياره و حكمته، إنما لما خصبت ذاته امتلأت بالجود أو الخير ففاضت على الوجود، كما يندفع الماء من الحوض فيضا وفيضانا.
ولهذا لا يوصف الله عندهم بالخلق، لان معنى الخلق في عرفهم مرادف للإحداث و الإيجاد في الزمان أي الحدوث من العدم ومن غير سبق، و الصدور عند المشائين أزلي قديم.
ولما تحرج ابن سينا و شيعته من القول بقدم العالم و قد تلقوا مقالات فلسفية مضطربة من الترجمة السريانية بحيث مزجوا بين فلسفة أفلاطون و فلسفة أرسطو، لم يستطعوا البرهنة على حدوث العالم ابتدعوا فكرة وسط بين الحدوث و القدم، هي فكرة الفيض أو الصدور خارج الزمان.
إن أول من خرف بهذه الخرافة: الفيلسوف أفلوطين المسيحي، لما واجهته مشكلة الجمع بين عقيدته المسيحية و فلسفة أرسطو ابتدع هذا الهراء، و تبعه عليه الفلاسفة المسلمون.
و قد نقض علماء الإسلام هذه النظرية، و كتبوا عنها منهم: الغزالي و ابن تيمية و الفيلسوف أبو البركات ابن ملكا و غيرهم، ومن جملة اعتراضاتهم الأصيلة:
1 ـ إذا كان الصدور أو الفيض من غير إرادة، أصبح الوجود و العدم متساويان، لأن الفلاسفة يقولون: إن الأول عالم بذاته، و علمه بذاته هو أساس صدور الموجودات، أي لما تعقل ذاته صدر عنه الوجود، فإذا كان أصل صدور الكائنات و الوجود تعقله و علمه، كيف يكون صدورها من غير إرادة ومجرد فعل تلقائي؟
2 ـ إذا قالوا عن الله سبحانه و تعالى إنه المحرك الأول و العلة الأولى، ثم زعموا أن الصدور عنه تلقائي، لزم أن تصبح العلة الأولى مجرد مادة للمعلول الثاني، و ليست بعلة بالمفهوم الفلسفي إذ العلة تفعل المعلول.
وعليه فهذا المعلول الثاني: العقل الفعال إن شئت لا يكون إلا قديما كقدم علته و مادته، فهو و إن كان له فاعل، ولكن هو فاعل من غير إرادة، فهو بالتالي لا أول له.
3 ـ وضعوا سلما أساسيا صاروا عليه دون تحليل أو نقد، وهو قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وجعلوا عدد العقول الصادرة بعدد ما يعرفونه من الأفلاك مما قاله علماء الهيئة، فلما لم يعرفوا إلا المجموعة الشمسية حرروا العقول على عددها، و ادعوا إن للأفلاك نفوسا تحركها.
فلو عرفوا ما يعرفه علماء الفلك في هذا العصر من وجود ملايين المجموعات الشمسية و المنظومات الفلكية لقالوا شيئا آخر، فهكذا يكون مصدر الفلسفة الخرافات و الأساطير، ثم يأتي الحمقى من المسلمين و يطلبون لها التبريرات الشرعية.
¥