ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]. وهذا كله على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل الحديث بأنه هبط على علم الله، وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن في هذا الحديث ما يدل على قولهم الباطل، وهو أنه حال بذاته في كل مكان، وأن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك.
والتحقيق: أن الحديث لا يدل على شىء من ذلك إن كان ثابتًا، فإن قوله: (لو أدلى بحبل لهبط) يدل على أنه ليس في المدلى ولا في الحبل، ولا في الدلو ولا في غير ذلك، وإنها تقتضي أنه من تلك الناحية، وكذلك تأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد، من جنس تأويلات الجهمية، بل بتقدير ثبوته يكون دالاً على الإحاطة. انتهى.
وكذلك المقصود بالتأويل هنا التفسير كما قال تعالى عن يوسف (هذا تأويل رؤياي من قبل) وليس المقصود به صرف اللفظ عن ظاهرة بدون قرينة موجبة لذلك
ويدل على ذلك أن الترمذي رحمه الله سمى ذلك تفسيرا حيث قال بعد الحديث (وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه)
وهذا الكلام لم يقله الترمذي وإنما نقله عن بعض أهل العلم على التفسير للحديث
ولذلك سماه ابن القيم رحمه الله تفسيرا كما في شرحه لتهذيب السنن ولم يسمه تأويلا حيث قال رحمه الله (حاشية ابن القيم ج: 13 ص: 6
وأما معارضته لحديث الحسن عن أبي هريرة ففاسدة أيضا فإن الترمذي ضعف حديث الحسن هذا وقال فيه غريب فقط قال ويروى عن أيوب ويونس ابن عبيد وعلي بن زيد قالوا لم يسمع الحسن من أبي هريرة قال الترمذي فسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا إنما معناه هبط على علم الله وقدرته وسلطانه وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه
وهذا التفسير الذي ذكره الترمذي يشبه التفسير الذي حكاه البيهقي عن أبي حنيفة رحمه الله في قوله تعالى (وهو معكم أينما كنتم)
فإنه قال أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه أخبرنا أبو محمد بن الحباب أخبرنا أحمد بن جعفر بن نصر حدثنا يحيى بن يعلى قال سمعت نعيم بن حماد يقول سمعت نوح بن أبي مريم يقول كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر إذ جاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهما فدخلت الكوفة فأظنني أول ما رأيت غليها عشرة الآلاف من الناس يدعون إلى رأيها فقيل لها إن ههنا رجلا نظر في المعقول يقال له أبو حنيفة فأتته فقالت أنت الذي تعلم الناس المسائل وقد تركت دينك أين إلهك الذي تعبده فسكت عنها ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها ثم خرج إلينا وقد وضع كتابا إن الله تعالى في السماء دون الأرض فقال له رجل أرأيت قول الله تعالى وهو معكم قال هو كما تكتب إلى الرجل إني معك وأنت غائب عنه قال البيهقي فقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله فيما نفى عن الله تعالى من الكون في الأرض وفيما ذكر من تأويل الآية تبع مطلق السمع في قوله إن الله عز وجل في السماء هذا لفظه في كتاب الأسماء والصفات) انتهى.
فهنا سماه ابن القيم تفسيرا ولم يسمه تأويلا.
الحاصل سلمك الله أن نسبة التاويل للترمذي لاتصح لعدة أمور:
أولا: أن هذه اللفظة التي ذكرها ابن الموصلي في مختصره عن ابن القيم مخالفظة للفظ ابن تيمية الصريح كما في الرسالة العرشية (كما في مجموع الفتاوى (6/ 573 - 574)
ثانيا: أن الترمذي رحمه الله لم يقله وإنما نقله عن غيره.
ثالثا: أن ابن القيم رحمه الله في حاشية السنن سمى هذا الكلام الذي نقله الترمذي تفسيرا ولم يسمه تأويلا.
فالحاصل أن هذا الحديث أختلف فيه أهل السنة في تصحيحه وتضعيفه
فالذين ضعفوه فقد أصابوا ولا داعي لتفسيره على القول بتضعيف.
وفي مختصر الصواعق ص 415 عن ابن القيم قال (والذين قبلوا الحديث اختلفوا في معناه، فحكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن المعنى يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، ومراده على معلوم الله ومقدوره وملكه، أي انتهى علمه وقدرته وسلطانه إلى ما تحت التحت، فلا يعزب عنه شيء.
وقالت طائفة أخرى: بل هذا معنى اسمه المحيط واسمه الباطن، فإنه سبحانه محيط بالعالم كله، وأن العالم العلوي والسفلي في قبضته كما قال تعالى (والله من ورائهم محيط) فإذا كان محيطا بالعالم فهو فوقه بالذات عال عليه من كل وجه وبكل معنى، فإحاطة تتضمن العلو والسعة والعظمة، فإذا كانت السموات السبع والأرضون السبع في قبضته فلو وقعت حصاة أو أدلي بحبل لسقط في قبضته سبحانه، والحديث لم يقل فيه إنه يهبط على جميع ذاته، فهذا لايقوله ولايفهمه عاقل، ولا هو مذهب أحد من أهل الأرض البتة، لاالحلولية ولا الاتحادية ولا الفرعونية ولا القائلون بأنه في كل مكان بذاته، وطوائف بني آدم كلهم متفقون على أن الله تعالى ليس تحت العالم) انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
فظاهر هذا أن ابن القيم رحمه الله لم يحمل قول الترمذي الذي نقله على أنه من جنس تأويل الجهمية ففسره بما سبق في قول أصحاب القول الأول.
والظاهر والله أعلم أنه لاتنافي بين القولين فتفسير من فسره بأنه يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه لاينافي القول بأن المقصود به الإحاطة
ولذلك جاء في مختصر الموصلي قول ابن القيم رحمه الله (بل بتقدير ثبوته، فإنما يدل على الإحاطة، والإحاطة ثابتة عقلا ونقلا وفطرة) انتهى.
وهو قول ابن تيمية رحمه الله كما سبق في قوله (بل بتقدير ثبوته يكون دالاً على الإحاطة).
فتبين لنا بهذا أن الإمام الترمذي رحمه الله لم يقع في التأويل المذموم الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره بدون قرينة.
فحتى لو أن الترمذي رحمه الله نقل هذا القول مقرا به فلا يعتبر ذلك من التأويل المذموم والله أعلم.
¥